والمفعول له ويكون أبداً مصدراً منصوباً ناصبه فعل من غير لفظه لأن الشيء يتوصل به إلى غيره ولا يتوصل به إلى نفسه، ولا يكون كل مصدر بل أكثر ما يقع من المصادر التي هي من أفعال النفوس كالطمع والرجاء(15).
والحال وأصل العامل فيه الفعل أو معناه. والفعل إما متصرف أو جامد، أما معناه فلفظ مضمن معنى الفعل دون حروفه. ومنه قول الشاعر:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً
فعامل الحالين وصاحبهما قوله "كأن" وهو حرف متضمن معنى الفعل "أشبه" دون حروفه. ويتفرع عنهما عوامل أخرى(16).
أما المفعول معه فناصبه ما سبقه من فعل أو شبهه بوساطة الواو، والواو لم تغير المعنى ولكنها تعمل في الاسم ما قبلها ومثل ذلك ما زلت أسير والنيل أي مع(17).
وكذلك العامل في المستثنى فإن فيه أقوالاً منها قول سيبويه أن العامل فيه الفعل المقدم أو معنى الفعل بوساطة إلا(18) أي أن ما قبلها يعمل في المستثنى بوساطتها كما في المفعول معه.
ومن الأفعال العاملة ما يستعمل استعمال الأدوات، والأدوات هي الحروف، وتختص بأحكام تنفرد بها عن جمهور الأفعال ومن ذلك "كان" وأخواتها. وما يفرقها عن باقي الأفعال أنها تدل على أزمنة مجردة من الأحداث والأفعال موضوعة للدلالة على الأحداث وعلى أزمنتها المعينة.
ومنها أفعال المقاربة مثل عسى وكاد.. أما عسى فجامدة يرتفع بها الاسم ويفتقر إلى خبر منصوب ولا يكون إلا مصدراً مقدراً غير مصرح بلفظه وذلك المصدر هو "أن" والفعل.. وقد تستغني به عن الخبر..
وأما كاد ففعل متصرف، وهو أشد مطالبة للفعل من "عسى" وأقرب إلى الحال منه، ولهذا استغنى عن دخول "أن" في خبره.. وما تبقى منها ما يستعمل استعمال "عسى" ومنها ما يستعمل استعمال "كاد"(19).
ومن تلك الأفعال "نعم وبئس" وما جرى مجراهما من الأفعال مما يقتضي مدحاً أو ذماً، وحكمها في العمل أنها ترفع من الأسماء الظاهرة فاعلين معرفين بأل الجنسية أو بالإضافة إلى ما قارنها، أو مضمرين مستترين مفسرين بتمييز نحو "بئس للظالمين بدلاً" وقوله: نعم امرأً هرم ففي كلا الشاهدين ضمير مستتر فاعل، مفسر لإبهامه بالتمييز(20).
هذا أهم ما يتعلق بالعوامل الأصول.. إلا أن هناك أسماء تعمل عمل أفعالها ولكنها تتخلف عنها ولا تبلغ منزلتها في العمل ومن هذا القسم اسم الفاعل. ومذهب سيبويه والجمهور أن أسماء الفاعلين لما شابهت الأفعال المضارعة أعملت حملاً عليها كما أعرب المضارع لمشابهته أسماء الفاعلين، ولذا منعوا اسم الفاعل من العمل إذا كان يعبر عما مضى(21).
واسم المفعول في العمل كاسم الفاعل في أنه يعمل عمل فعله الجاري عليه فنقول هذا رجل مضروب أخوه، فأخوه مرفوع بأنه اسم ما لم يسمَّ فاعله كما أنه في يضرب أخوه كذلك(22) وتنصبه به أيضاً إن كان فعله متعدياً كقولك: زيد معطى أبوه درهماً كما تقول يعطى أبوه درهماً.
أما الصفات المشبهة فتعمل الرفع خاصة ولا تنصب مفعولاً فإن نصبت فعلى التشبيه بالمفعول لا على المفعول الصريح(23) وإنما عملت لأنها شابهت اسم الفاعل بكونها صفة تثنى وتجمع وتؤنث(24) إلا أنها فروع على أسماء الفاعلين إذ كانت محمولة عليها انحطت عنها ونقص تصرفها عن تصرف أسماء الفاعلين كما انحطت أسماء الفاعلين عن مرتبة الأفعال فلا يجوز تقديم معمولها عليها كما جاز ذلك في اسم الفاعل(25) وأما المصادر العاملة عمل الأفعال فهي كل مصدر قدر بأن أو ما والفعل وإنما عمل المصدر إن كان على هذه الصفة لأنه في معنى الفعل ولفظه متضمن حروف الفعل فجرى مجرى اسم الفاعل فعمل عمله(26).
ومما أعمل عمل الأفعال ألفاظ سميت بها الأفعال أي قامت مقامها ودلت عليها بعملها عملها والفرق بينها وبين مسمياتها من الأفعال أنها وإن عملت عملها فإنها ليست بصريح أفعال لعدمها التصرف الذي هو خاص بالفعل، ولذلك نقص تصرفها في معمولها عن تصرف الفعل وانحطت في ذلك رتبته(27) وهي على ضربين: ضرب لتسمية الأوامر وضرب لتسمية الأخبار والغلبة للأول وهو ينقسم إلى متعد للمأمور وغير متعد له فالمتعدي نحو قولك: عليك زيداً أي: الزمه وغير المتعدي نحو: صه أي اسكت... وأسماء الأخبار نحو هيهات ذاك أي بعُد(28).
وأما القسم الأخير من العوامل فهو العوامل من الحروف... والعامل منها ما اختص بالفعل أو الاسم، والمهمل هو غير المختص بأحدهما... إلا أن بعض الحروف قد تكون مختصة وهي غير عاملة، وعلة ما جاء من هذا الضرب في امتناعه عن العمل أن يتصل بما اختص به اتصالاً شديداً، حتى يتنزل لشدة اتصاله به منزلة الجزء منه(29) وهذه ثلاثة:
ما ينصب الاسم ويرفع الخبر وهي الحروف المشبهة بالفعل... وقد تدخل عليها "ما" فتكف "إن" وأخواتها عن العمل وتزيل اختصاصها بالأسماء..
ثم حروف الجزم وأدوات الشرط.
وأخيراً حروف الخفض... وكلها معروفة.
وقد يضمر العامل لا لثقله لكن لغير ذلك: من التعويض منه، أو لأن الصنعة أدت إلى رفضه، وذلك نحو (أن) مع الفعل إذا كان جواباً للأمر والنهي، وتلك الأماكن السبعة، نحو اذهب فيذهب معك "ولا تفتروا على الله كذباً فيسحتَكِم بعذاب" وذلك أنهم عوضوا من (أن) الناصبة حرف العطف، وكذلك قولهم: لا يسعني شيء ويعجز عنك، وقوله:
نحاول ملكاً أو نموتَ فنعذرا
صارت أو والواو فيه عوضاً من (أن)، وكذلك الواو التي تحذف معها رُب في أكثر الأمر، نحو قول الراجز:
وقاتمِ الأعماق خاوي المخترَق.
غير أن الجر لرب لا للواو، كما أن النصب في الفعل إنما هو لأن المضمرة، لا للفاء ولا للواو ولا (لأو).
ومن ذلك ما حذف من الأفعال وأنيب عنه غيره. مصدراً كان أو غيره... فالعمل الآن إنما هو لهذه الظواهر المقامات مقام الفعل الناصب.
ومن ذلك ما أقيم من الأحوال المشاهدة مقام الأفعال الناصبة، نحو قولك: إذا رأيت قادماً:
خيرَ مقدم، أي قدمت خير مقدم. فنابت الحال المشاهدة مناب الفعل الناصب فهذا ونحوه لم يرفض ناصبه لثقله، بل لأن ما ناب عنه جار عندهم مجراه، ومؤد تأديته(30).
وبعد فقد تبين لنا من هذا العرض المقتضب للعوامل أن الرأي السائد فيها هو أنها محدثة حركات الإعراب وهذه الحركات سبب تنوع معاني الكلم.. كما لاحظنا أن فكرة العامل دخلت جميع أبواب النحو، وأن هذه الأبواب وزعت على أساسها، فهلا ناقشنا هذه الفكرة فتعرفنا جوانب الصواب فيها؟!
لا بأس لدينا من خلال ما جاء في كتاب "الرد على النحاة".
لقد ثار ابن مضاء القرطبي (511-592هـ) في كتابه هذا على قول النحاة بالعامل، ولم يلتفت إليه أحد، ولم يؤبه لرأيه هذا، وظل كتابه قابعاً في زاوية مظلمة، إلى أن قيِّض له الدكتور شوقي ضيف في سنة (1947م) فحققه وقدم له بمقدمة أشاد فيها بهذا الرجل وبكتابه، ونعته بالطرفة البديعة!
وكل ما يعنينا منه أنه دعا إلى إلغاء نظرية العامل، وحجته في ذلك أنها كانت السبب في تعقيد النحو لما خلفته من تقديرات وتأويلات، فلهذا رأى أن يحذف من النحو ما يستغني النحوي عنه، وينبه على ما أجمعوا على الخطأ فيه، وادعى أن رأي سيبويه بيِّن الفساد بتوزيعه أبواب كتابه على فكرة العامل لاعتقاده أن العامل هو محدث الإعراب(31).