المنهج التجريبي في علوم المادة
مقدمة وتمهيد (نشأة العلوم التجريبية):
إذا كان ميدان الرياضيات هو المفاهيم العقلية المجردة فإن ميدان العلوم التجريبية هو الواقع المحسوس والملموس وإذا كان المنهج الرياضي منهجا عقليا استنباطيا، فإن منهج العلوم التجريبية، بالضرورة تجريبيا ينطلق فيه العالم من دراسة الوقائع ليصل إلى قانون يحكمها. وإذا عدنا إلى الواقع الذي يعد موضوعا للعلوم التجريبية وجدنا ظواهره متباينة فمنها ما يتصل بالمادة الجامدة وهذه من اختصاص علم الطبيعة (الفيزياء) ومنها ما يتصل بالمادة الحية وهذه تشكل موضوعا لعلم البيولوجيا (علم الأحياء) ومن هذه الظواهر ما يتصل بالإنسان وهي من اختصاص العلوم الإنسانية باختلاف فروعها.
تسمى هذه العلوم علوما تجريبية لأنها تتبنى المنهج الاستقرائي التجريبي في أوسع معاينة أي باعتباره منهجا ينتقل الباحث فيه من الظواهر إلى القوانين التي تحكمها. ويمر هذا المنهج بمراحل مختلفة تبدأ بالملاحظة ثم الفرض ثم مرحلة التجريب وصولا إلى القانون وقد حدد كلود برنار هذه المراحل في قوله "الحادث يوحي بالفكرة والفكرة تقود إلى التجربة وتوجهها، والتجربة تحكم بدورها على الفكرة".
والمنهج التجريبي بهذا المعنى لم يكن حديث النشأة بل يعود في جذوره إلى مفكري الإسلام ويمكن أن نذكر بعضا منهم العالم والطبيب الفيلسوف ابن سينا من خلال كتابه "القانون في الطب وأبا بكر الرازي من خلال كتاب "الحاوي" ومن كبار علماء الكيمياء "جابر بن حيان" ومن علماء الطبيعة الأجلاء الحسن بن الهيثم الذي يعد أول من طبق الرياضيات في دراسة الظواهر الطبيعية. فقد تحدث جابر بن حيان عما أسماه بالدّربة والمقصود بها اليوم التجربة واعتبارها شرطا ضروريا لقيام العلم كما تحدث عن ضرورة تحديد المعاني أو ما نسميه اليوم بتحديد المفاهيم والمصطلحات ووضع بخصوص ذلك رسالة عنوانها "الحدود".ويرفض قبول أية حقيقة تنقل عن الغير ما لم يتثبت من صحتها تجريبيا أما لحسن ابن الهيثم الذي هو من كبار علماء الطبيعة كما قلنا سابقا فقد طبق المنهج الاستقرائي في دراسة ظاهرة الانعكاس وظاهرة الانعطاف في الضوء وانتهى إلى إبطال الرأي اليوناني القائل أن الرّؤية تتم عن طريق شعاع يصدر عن العين المبصرة. وأثبت أن الأمر يتعلق بالضوء الذي له وجود في ذاته. ومن الأسس الهامة التي أقام عليها منهجه التأكيد على ضمان الأمانة العلمية والتحلي بالموضوعية ويقول "ونجعل غرضنا في جميع ما نستقريه ونتصفحه استعمال العدل لا إتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء".
ويعترف مفكرو الغرب أنفسهم بجهود العلماء المسلمين في البحث ومن هؤلاء جون هارمان رائل إذ يقول "كان العرب في القرون الوسطى يمثلون التفكير العلمي والحياة الصناعية العلمية الذين تمثلها في أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة، وخلافا للإغريق لم يحتقر العرب المختبرات العلمية والتجارب الصبورة".
ويقول بريفو brifflault "إن ما ندعوه علما قد ظهر في أوربا نتيجة لروح جديد في البحث وطرق جديدة في الاستقصاء ...والطرق التجريبية والملاحظة والقياس، والتطورفي الرياضيات في صورة لم يعرفها اليونان، هذه الروح وتلك المناهج أدخلها العرب إلى العالم الأوروبي..."
إن مثل هذه الشهادات وإن كانت تدل على جهود المسلمين في البحث العلمي إلا أنها لا تجعلنا في غفلة عن التطورات الهامة التي حدثت منذ ذلك التاريخ في مجالات البحث العلمي فلقد أكمل الدرب رواد مبدعون من أمثال روجر بيكون وفرنسي بيكون، جون استورت مل وكلودبرنار.
خطوات المنهج التجريبي
الملاحظة:
المدلول العام لكلمة ملاحظة هو أنها مشاهدة للظواهر على ما هي عليه في الطبيعة، والملاحظة كخطوة أولى من خطوات المنهج التجريبي ليست مجرد مشاهدة حية بل هي عملية هادفة يسعى من ورائها العالم إلى تحويل الظواهر من ظواهر تحدث في الطبيعة هكذا إلى حوادث علمية. ولهذا تختلف عن الملاحظة العادية -ونقصد بهذه الأخيرة تلك التي يمارسها الرجل العادي بشكل عفوي في حياته- في كون الأولى مقصودة أما الثانية فعابرة لا تثبت ولا تنفي شيئا.
ويترتب عن ذلك أن الأولى تضيف شيئا جديدا إلى العلم في حين أن الثانية لا تضيف معرفة جديدة.
والملاحظة العلمية يمكن أن تكون حسية أي تعتمد على الحواس مباشرة لمعرفة حوادث الطبيعة وهي التي تعرف بالملاحظة المباشرة.
ويمكن أن تكون ملاحظة مسلحة وهي التي يستعين فيها الملاحظ بالآلات ووسائل يقوى بها حواسه لأن الآلات تساعد على إدراك ما لا تدركه الحواس في الظواهر وفي هذا يقول كلورد برنار "لا يستطيع الانسان أن يلاحظ الحوادث المحيطة به إلا داخل حدود ضيقة، لأن القسم الأعظم منها يقع خارج نطاق حسه، فلا يقنع بالملاحظة البسيطة، بل يوسع مدى معرفته ويزيد قوة أعضائه بآلات خاصة، كما يجهز نفسه بأدوات مختلفة تساعده على النفاذ إلى داخل الأجسام لتقييمها، ودراسة أجزائها الخفية".
شروط الملاحظة:
حتى تكون الملاحظة علمية ينبغي أن تتوفر على ثلاثة شروط أساسية:
1. الموضوعية: ينبغي أن تكون الملاحظة موضوعية تنقل لنا الحوادث كما هي في الطبيعة أي أن الملاحظة ينبغي له أن يكون كآلة التصوير الفوتوغرافي ينقل لنا الظاهرة بدقة ولا يتدخل في مجرى الظاهرة.
2. الدقة: ينبغي أن لا تؤخذ الظاهرة أثناء الملاحظة على أنها بسيطة بل على العالم أن يعتقد بتداخل وتشابك الظواهر والغرض من ذلك الحرص على الملاحظة بدقة.
3. صيانة الآلات والأجهزة: مادام اللجوء إلى الوسائل التقنية شرط ضروري للبحث العلمي وهذا يعني أن الاعتماد عليها دائم ومستمر ولذا يجب على العالم أن ينتقي أدواته ووسائله بدقة كان تكون متطورة ودقيقة وأن يخضعها للمراقبة والصيانة المستمرتين لأن أي خلل في الآلة يعني تشوه الملاحظة وهذا ما ينعكس سلبا على نتائج البحث.
الفرضية: إذا كانت الملاحظة هي نقل للظاهرة من المجال الطبيعي الخام إلى المجال العلمي لتتحول الظاهرة إلى حادث علمي فإن الفرضية هي نقل الظاهرة من المجال الحسي إلى المجال العقلي ولذا تعرف الفرضية بأنها فكرة عقلية مؤقتة أو حل مؤقت للظاهرة أو كما يقول غوبلو الفرضية قفزة نحو المجهول والفرضية حل مؤقت كما قلنا يتوقف قبوله أو رفضه على ما تؤدي إليه التجربة والفرض العلمي ضروري في البحث مثلا الفرض العلمي الذي يفسر عدم ارتفاع الماء في الأنابيب فوق 10.33 م بسبب الضغط الجوي. يقول ماخ "إن هذه الفكرة ضرورية ولولاها لما استطاع العالم أن يجرب لأن التجربة تتبع الفكرة والفكرة تعين الاتجاه العلمي وتقود المجرب فيسترشد بها في عمل التجربة" عن الفرضية مجهود عقلي يحاول وضع حد للتساؤلات التي أدى إليها الحادث المشكل Le fait problème .
ويصر الكثير من فلاسفة العلم إلى إعطاء الدور الفعال للفرضية بدل الملاحظة والتجربة ومن هؤلاء كلود برنار، هنري بوانكاري وفي هذا يقول هذا الأخير: "كثيرا ما يقال يجب أن نجرب دون فكرة مسبقة وهذا غير ممكن لأنه سيجعل كل تجربة عقيمة ولو حاولنا ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ذلك لأن الملاحظة الخالصة ولتجربة الساذجة لا تكفيان لبناء العلم".
شروط الفرض العلمي:
حتى تكون الفرضية علمية يجب أن تتوفر على الشروط التالية:
1. أن تكون مستمدة من الملاحظة والتجربة وقد حدد كلود برنارد هذا الشرط بقوله "إن الأفكار التجريبية يمكن أن تولد إما لمناسبة ظاهرة نلاحظها، وإما إثر محاولة تجريبية، وإما كنتيجة متممة لنظرية سبق التسليم بها".
2. أن تكون الفرضية خالية من التناقض المنطقي في صياغته أي أن يصاغ في شكل قضية واضحة تكون قابلة للتحقق عن طريق التجربة المباشرة أو غير المباشرة، وفي هذا يقول باستور "إن أسمى الأفكار وأقرب الآراء احتمالا للصدق لا تصبح حقيقية واقعية إلا إذا كانت مطابقة للواقع".
3. أن لا تتعارض مع الحقائق العلمية المؤكدة، على أن هذا الشرط لا ينبغي أن يكون عائقا دون إطراد التقدم العلمي عن طريق مراجعته الدائمة.
4. التجربة: هي إحداث الظاهرة ضمن شروط اصطناعية أو هي اصطناع الظاهرة مخبريا بهدف التحقق من الفرض إن كان صحيحا أو خاطئا أو بهدف رؤية أفضل للظاهرة ولذا تعد من أهم المراحل في البحث العلمي لقد قال بوانكاري "التجربة هي الينبوع الوحيد للحقيقة" غير أنه يجب التمييز بين تجارب رديئة وأخرى جيدة والفرق بين الأولى والثانية هو ترتيب الوقائع وتنظيمها ومرد ذلك العقل فكما أن تكديس الحجارة لا يعني بالضرورة بناء فكذلك تكديس الوقائع لا يكون علما.
والتجربة العلمية أنواع فمنها ما يتم بشكل مباشر داخل المخبر وهذه ينطبق عليها التعريف الأول ومنها ما يتم بطريقة غير مباشرة أي عن طريق الملاحظة التي تقوم مقام التجربة ونلاحظ هذا النوع بشكل جلي في ميدان علم الفلك.
مزايا التجربة: وأهمية التجربة بالنسبة للبحث العلمي تكمن في مزاياها ونذكر من هذه المزايا:
تمكن العالم من تحليل الظواهر إلى عناصرها الأولية ومكوناتها الأساسية.
تمكن من تغير شروط الظاهرة والتلاعب بها قصد الوقوف على أسبابها الحقيقية لقد عبر كوفيه عن هذا الميزة بقوله إن الملاحظ يصغى إلى الطبيعة أما والمجرب فيسألها ويرغمها على الإجابة.
تمكن من عزل الظواهر بحكم أنها توجد متداخلة ومتشابكة في الطبيعة.
أنها تسمح بتكرار الظواهر وهذا يوفر الوقت والجهد.
إحداث مركبات جديدة وهو ما نراه في الكيمياء.
الاستقراء وإشكالية تبريره:
إن الحديث عن خطوات المنهج التجريبي كمنهج بحث علمي يقوم أساسا على الاستقراء أثار جدلا حادا بين الحسيين التجريبيين وبين العقليين ويمكن صياغة الإشكال موضوع الجدل كالتالي أيهما أهم في الاستقراء العلمي الملاحظة والتجربة أم الفرضية؟ وبصيغة أخرى هل بناء الوقائع العلمية هو مجرد قراءة بارعة لهذه الوقائع من خلال الملاحظة الحسية الدقيقة أم أن المعرفة والاستقراء العلمي إبداع عقلي يتحدد من خلال الفرضيات؟
الموقف الحسي: يؤكد أنصار هذا الاتجاه أن البحث العلمي تقدم وتطور بفضل التجربة التي تعد عملية حسية خالصة ومن هؤلاء أصحاب المدرسة الانجليزية ممثلة بدافيد هيوم الذي لا يعترف إلا بنشاط الحواس كمصدر للمعرفة وبالنسبة لقيمة ما تمدنا به الحواس مثلا الحواس مثلا نجد أرنست ماخ الذي يذهب إلى التأكيد بأن الطبيعة بالنسبة للإنسان هي جملة العناصر التي تقدمها له حواسه، أي أن المصدر الوحيد للمعرفة هي الحواس، فما الأشياء إلا مجرد رموز ذهنية لمركب من الإحساسات تتمتع باستقرار نسبي لأن كل الأشياء في الطبيعة تتغير ثم أن العناصر الحقيقية في الطبيعة ليست هي الأشياء ولكنها الألوان والأصوات، والضغوط اللمسية والأمكنة والأزمنة أي كل ما نسميه بالإحساسات.
الحجة: ويمكن أن نستنبط حجة هؤلاء من أن كل معارفنا مهما كانت معقدة ومهما كانت مجردة ونظرية تنحل إلى إحساسات تتكون بالملاحظة والتجربة إذن فالإحساس مصدر لمعرفتنا بما في ذلك العلمية.
النقد: مهما كانت قيمة الحواس ومهما كانت قيمة التجربة فإننا لا يمكن إنكار أو إهمال دور العقل إن المثال التالي يوضح ما نريد لقد ذكر كلود برنارد أن فرنسو هوبر (1950-1831) وهو عالم فيزيائي كان أعمى غير أنه ترك تجارب رائعة كان يتصورها ثم يطلب من خادمه أن يجريها، ولم تكن لخادمه أية فكرة علمية أي كأن هوبر هو العقل الموجه الذي يقيم التجربة، لكنه كان مضطرا إلى استعارة حواس غيره إن هذا المثال يوضح أن الاستقراء العلمي إبداع عقلي.
الاتجاه العقلي: في المقابل للاتجاه السابق يعتقد أنصار الاتجاه العقلي أن العقل أداة الخلق العلمي لقد مثل هذا الاتجاه قديما ديكارت من خلال مقولته الشهيرة أنا أفكر إذن أنا موجود ليمثل هذا الاتجاه حديثا في العلم مجموعة كبيرة من فلاسفة العلم ومنهم أنشتاين، بوانكاري.
لقد قيل "الفكرة هي مبدأ كل برهنة وكل اختراع وإليها ترجع كل مبادرة"
أما ما قال أنشتاين فهو أن: "العلم هو من خلق العقل الإنساني بواسطة أفكار وتصورات اختراعات بحرية"
أما بوانكاري فأكد من خلال كتاب "العلم والفرض" أن التجربة هي الينبوع الوحيد للحقيقة، هذا أمر لا يجادل فيه أحد، لكن من التجارب ما هي جيدة منها ما هي رديئة والتجارب الرديئة مهما تكاثر عددها لا تفيد وتكفي واحدة يقوم بها عالم ممتاز مثل باستور ليقضي عليها جميعا"إن التجربة الجيدة هي التي يقودها العقل ويوجهها.
النقد: صحيح أن دور العقل ينبغي أن يكون إيجابيا وفعالا في البحث العلمي غير أن هذا ليس مبررا للقول أن المعرفة العلمية والاستقراء العلمي يعود الفضل فيه للتجربة وهذا ما جعل باشلار يوضح بأن زمن التجارب الفضولية قد ولى كما أن زمن لفروض المؤقتة قد زال، إن العمل العلمي الحقيقي يدرك من خلال تبادل النصح والتوجيه بين العقلانية والواقعية ولا يمكن إقامة البرهان العلمي بدون أحدهما.
وأيا كان الصراع حول طبيعة الاستقراء ، فإن المنهج التجريبي الاستقرائي يقود في النهاية إلى تفسير الظاهرة أو الحادثة محل الدراسة غير أن السؤال المطروح هو هل التفسير العلمي هو تفسير بالسبب أم بالقانون؟
السببية العلمية والقانون العلمي:
معنى السببية: إن فكرة السببية قديمة قدم الفكر الإنساني فلقد كان الاعتقاد أن السبب قوة خفية تحدث الظواهر والعالم الحسي يرتبط ارتباطا سببيا بهذا القوة الخفية.
غير أن هذا المفهوم لا يهمنا اليوم ولم يعد له معنى وأصبح معنى السبب في الفكر العلمي يفيد معنى العلاقات بين الظواهر أي أن السبب هو علاقة بين حادثتين وهذا هو معنى القانون إذ يقول أوغست كونت : "القانون العلمي هو العلاقة الثابتة بين مادتين أو أكثر" وقد نوه كونت بأهمية القانون العلمي كمطلب للبحث العلمي غير أن القوانين العلمية أنواع نذكر منها :
القوانين السببية: و هي القوانين التي تفيد الترابط السببي بين العلة والنتيجة،كالقول أن الماء يغلي في درجة حرارة 100م ،فهذه النتيجة تفيد الترابط السببي بين درجة الحرارة 100م و بين ظاهرة غليان الماء.
قوانين تفيد خواص و تركيب الظواهر: وتعتبر هذه القوانين وصفية تقرر خواص ظاهرة معينة ضمن شروط معينة ، فالماء مظاهرة يكون كتلة جامدة صلبة إذا كانت درجة الحرارة أقل من الصفر ويكون في حالة سائلة إذا كانت درجة حرارته أكبر من 100 إضافة إلى خواص أخرى كيميائية وفيزيائية.
قوانين تفيد ثوابت عددية: كالقول سرعة الضوء تساوي 300.000 كلم/ثا.
صياغة القانون العلمي: إذا كان القانون العلمي وليد منهج دقيق فهو يعبر عن الظواهر في شروط مثالية (كوجود الظواهر معزولة بعضها عن بعض، ولذا فمن البديهي أن نعتقد بأن القانون العلمي صيغة عقلية لا تطابق الواقع تمام المطابقة بل تضفي عليه نسبة الرجحان في التصديق والمطابقة وهذا ما يجعل القوانين العلمية متطورة قابلة للتصحيح.
الحتمية واللاحتمية في الفيزياء:
مقدمة: إذا كان الاستقراء العلمي يهدف إلى الكشف عن الظواهر ومعرفة أسبابها القريبة وصياغتها في شكل قوانين عامة فإن الاستقراء العلمي من جهة ثانية ينتقل فيه العالم من بعض الظواهر إلى القوانين العامة وضمانة هذا الانتقال هو مبدأ الحتمية الذي ينص على أنه متى توفرت نفس الأسباب أدت إلى نفس النتائج بشكل حتمي وضروري تبعا لنظام الكون الثابت غير أن تقدم علم الفيزياء واقتحام عالم الذرة والنتائج المتوصل إليها جعل الكثير من فلاسفة العلم يرفضون هذا المبدأ والسؤال إلى يطرح نفسه.
هل مبدأ الحتمية ضروري فعلا في علم الفيزياء أم أنه
ليس ضروريا بل يمكن تعويضه بمبادئ أخرى؟
الاتجاه الحتمي: ظل الكلاسيكيون يعتقدون جازمين إن العلم يقوم أساسا على مبدأ الحتمية فكل الظواهر تسير بمقتضى حتمية دقيقة واعتبر لابلاس وبواسون أن الكون نفسه آلة تسير بمقتضى قوانين حتمية، ويكفي معرفة هذه القوانين حتى نتنبأ بشكل حتمي ودقيق بحدوث الظواهر قبل وقوعها وفي هذا يقول لابلاس: "لو أن عقلا تطلع في لحظة ما، على سائر القوى التي تحرك الطبيعة وعلى الحالة الخاصة بالكائنات التي تؤلفها لا بل لو كان له من السلعة ما يستطيع به أن تخضع هذه المعطيات للتحليل لاستطاع أن يلم في قاعدة واحدة بحركات أكبر الأجسام في الكون وبحركات أخف الذرات، فلا شيء يكون محلا للارتياب بالنسبة إليه ويكون المستقبل والحاضر ماثلين أمام عينية".
إن تأكيد مبدأ الحتمية في العلم ضرورة قاد إليها البحث العلمي في مراحل السابقة والهدف من ذلك ضمان الدقة المطلقة لنتائج العلم لقد قال بوان كاري: "العلم حتمي بالبداهة وهو يضع الحتميات موضوع البديهيات التي لولاها ما أمكن له أن يكون"
النقد: إذا مبدأ الحتمية ضروري في الفيزياء ويصدق أكثر في عالم الظواهر الكبيرة غير أن تقدم علم الفيزياء نفسه أفضى إلى نتائج مغايرة كما هو الحال في فيزياء الصغائرMicro physique
كما أننا يجب أن نميز بين نوعين من الحتمية:أولاالحتمية العلمية التي ترفض الصدفة وتدفع الجهل.
ثانياالحتمية المطلقة الكونية: والتي تعد في حد ذاتها فكرة ميتافيزيقية تقضي على كل مبادرة إنسانية في الفهم على حد تعبير جون أولمو وهذه الأخيرة سيطرت على فيزياء القرن التاسع عشر.
اللاحتمية: في المقابل للطرح السابق توصل الكثير من الفيزيائيين إلى نتائج هزت مبدأ الحتمية ومن ذلك ما أفضت إليه بحوث "ماكس بلانك" من أن الذرة المشعة لا تصدر طاقتها بصفة منتظمة أو متصلة يمكن إخضاعها لمبدأ الحتمية،بل بصفة غير منتظمة وفي شكل صدمات.
أما الثاني فهو العلم الأمريكي هايز نبرغ الذي توصل إلى تأكيد استحالة قياس كمية حركة الجسيم داخل الذرة وتحديد موقعه في آن واحد مما يؤدي إلى استحالة التنبؤ الدقيق والحتمي بكمية الحركة والموقع في آن واحد.
ومعنى ذلك أن مبدأ الحتمية لم يعد ضروريا على الاطلاق ويجب الانتقال بالفيزياء من الحتمية إلى اللاحتمية.
النقد:
إن رفض الحتمية يؤدي مباشرة إلى الوقوع في الصدفة التي تعد تبريرا للجهل أكثر ما هي مصدر للعلم.
التركيب: قادت هذه الإشكالية في علم الفيزياء إلى اجتهادات كبيرة كان لها الأثر الإيجابي في علم الفيزياء منها:
التمييز في الحتمية بين حتمية علمية ضرورية في البحث وحتمية كونية ينبغي رفضها.
اهتدى العلماء إلى حساب الارتياب في القياسات كطريقة لتحقيق أكبر مقدار من الدقة إضافة إلى ذلك مبدأ حساب الاحتمال الذي جاء ليدعم مبدأ الحتمية.
مشكلة الحتمية والغائية في البيولوجيا:
مفهوم علم البيولوجيا الحية: يختص علم البيولوجيا بدراسة الظواهر الحية سواء كانت نباتية أم حيوانية.
خصائص الظاهرة الحية: تشترك الظاهرة الحية مع الظاهرة الفيزيائية في كونهما مادتين تشغلان حيزا من المكان، تقبلان الملاحظة والدراسة الموضوعية.
ومع ذلك فهما يختلفان إذ تتميز الظاهرة الفيزيائية بجملة من الخصائص يمكن إجمالها فيما يلي:
الظاهرة الحية معقدة: تتسم الظاهرة الحية بدرجة غالية من التعقيد، يظهر ذلك في ترابطها مع غيرها من الظواهر مما يصعب عزلها ودراستها علميا وبشكل مستقل.
الظاهرة الحية حية: أي تقوم بجملة من الوظائف الحيوية وكل دراسة علمية مطالبة بدراسة الظاهرة الحية في هذا الإطار الحيوي ومن جملة الوظائف الحيوية التي تميز الظاهرة الحية:
التغذي: وظيفة حيوية تتمثل في أخذ مواد من الطبيعة وتحويلها عن طريق التمثيل أو الهضم إلى مواد قابلة للاستهلاك.
التكاثر: وظيفة حيوية تتمثل في نزوع الكائن آليا أو غريزيا في مرحلة من مراحل النمو إلى إعطاء كائن يحمل نفس المواصفات النوعية [استمرار النوع].
النمو: وظيفة حيوية تتمثل في انتقال الكائن من مرحلة إلى مرحلة تكون مصحوبة بجملة من التغيرات والمظاهر.
التنفس: وظيفة حيوية يقوم بها الكائن الحي تتمثل في أخذ الأكسجين وطرح ثاني اكسيد الكربون أو أخذ الأكسجين الذي تستعمله لخلية في الاحتراق لإنتاج الطاقة الضرورية...
الإطراح: عملية حيوية قوامه طرح المواد التي لا يحتاجها الجسم إلى الخارج...الخ.
أسباب تأخر علم البيولوجيا وحدود التجربة فيه :
إذا عدنا إلى تاريخ البيولوجيا نجده قد تأخر في الظهور قياسا إلى علم الفيزياء ويذكر رواد هذا العلم أن الدعوة الفعلية إلى ظهور علم البيولوجيا ترتبط بالبيولوجي كلود برنار في كتابة " مدخل إلى الطب التجريبي " مع أننا نعتقد أن جهود المسلمين كانت سباقة إذا مارسوا الطب بصورة تجريبية رغم أنهم لم ينظروا لهذه الممارسة ، ومهما يكن من أمر فأسباب تأخر علم البيولوجيا كثيرة نذكر منها :
طبيعة الظاهرة الحية ذاتها .
نقص الوسائل والأجهزة .
ارتباط البيولوجيا بالخرافة .
مشكلة الحتمية والغائية في البيولوجيا :
أ) ضبط المشكلة : رغم أسباب التأخر التي طالت علم البيولوجيا إلا أن دعوة كلود برنار كانت مثمرة ( دراسة بول الأرانب ) في تحول علم البيولوجيا إلى علم تجريبي غير أن إمكانية التجريب هذه أدت إلى طرح المشكلة إبستومولوجية هامة هي :
كيف يمكن دراسة المادة الحية؟ بلغة أخرى هل تدرس بنفس الكيفية التي تدرس بها المادة الجامدة أم بكيفية خاصة ؟ بلغة أخرى هل تدرس الظاهرة البيولوجية في نطاق حتمي آلي كما لو كانت ظاهرة فيزيائية أم تدرس في نطاق غائي خاص ؟ يعبر البيولوجي الفرنسي كينو عن هذه المشكلة بقوله : " إن فهم أو تفسير الغائية العضوية هي المشكلة الرئيسية في البيولوجيا، وحتى في الفلسفة ، وعلى هذا الشأن ينقسم البيولوجيون إلى مدرستين تعتقد كلاهما اعتقادا راسخا في متانة دعائمها مما لا يترك أي مجال للاتفاق "
ب) الموقف الحتمي الآلي : يذهب كلود برنار إلى أن الدراسة العلمية للظواهر الحية لا يكون إلا في نطاق حتمي ذلك أن الظواهر الحية هي نفسها الظواهر الجامدة
يقول: " إن المظاهر التي تبدو في الظواهر الحية هي نفسها المظاهر التي تتجلى في الظواهر الجامدة إنها تخضع لنفس الحتمية .
إن طابع التشابه بين الظاهرة الحية والظاهرة الفيزيائية قوي ويتعلق أصلا بالمكونات الاختلاف الوحيد بينهما يظهر في درجة التعقيد الذي يعد اختلافا في الدرجة وليس اختلافا في النوع أي أن اختلاف عرض وليس جوهري هذا ما تكشفه التجربة ، ذلك أن تحليل المادة الحية
يوصلنا إلى مكونات طبيعية ثم إن التفاعل الذي يتم على مستوى المادة الحية هو نفسه تفاعل كيميائي .... إلخ
النقد: يكشف هذا التوجه على نزعة علمية تطمح إلى تحقيق الدقة الملاحظة في الفيزياء غير أن هذه النزعة أخطأت أكثر من مرة فهي لم تراع خصائص الظاهرة الحية .
أخضعت الظاهرة للمنهج في الوقت الذي كان ينبغي أن يكون العكس.
وصلت إلى نتائج لم تشمل كل الظواهر الحية.
II- الموقف الغائي:
في المقابل للطرح السابق يذهب الغائيون ذوي التوجه الحيوي إلى القول أن الظاهرة الحية من طبيعة خاصة وينبغي أن نراعي هذه الخصوصية أثناء الدراسة ومن هذه الخصوصية أثناء الدراسة ومن هذه الخصوصية نذكر أنم الظاهرة الحية تتميز بطابع من النظام والانسجام والدقة والتي تفرض دراستها في نطاق غائي.
ويضرب دونوي مثلا لذلك إذا أخذنا أنبوبا ووضعنا فيه صفين من الكرات إحداها سوداء والأخرى بيضاء في كل صف 1000 كرية فإذا حركنا الأنبوب لتختلط فإن احتمال انتظامها ضعيف يقدر بـ 0.489-14 .
يكشف المثال أن التفاعل في المادة الحية ليس تفاعلا أعمى ولا يفسر في نطاق مبدأ الحتمية.
النقد: يصدق هذا بكل تأكيد على الظواهر الحية الأكثر تعقيدا ذلك أن نشاط الخلايا مثلا يتم في نطاق الاختصاص.ومن العبث أن نلغي الدور والوظيفة الخاصة بالخلايا غير أن المبالغة في هذا الطرح تؤدي إلى اعتبارات ميتافيزيقية تعيق العلم يقول كلورد برنارد ناقدا الاتجاه الغائي: "إن التفسير الغائي عقيم شبيه بعذراء تقدم نفسها قربانا للآلهة".
التركيب: يتجه علماء البيولوجيا اليوم إلى دراسة الظواهر الحية في نطاقين حتمي وغائي كما لو كانت الظاهرة ضمن معلم يراعي الظاهرة في حتميتها وفي غائيتها.