سامي مدير المنتدى
عدد المساهمات : 1236 نقاط : 3610 تاريخ التسجيل : 06/11/2010 الموقع : الجلفة
| موضوع: التداولية ومنزلتها في النقد الحديث والمعاصر الجمعة ديسمبر 03, 2010 4:02 pm | |
| التداولية ومنزلتها في النقد الحديث والمعاصر
بقلم الأستاذ : رخرور أمحمد ـ الجزائر
ما هي التداولية ؟ : تسعى التداولية لأن تتجاوز حدود الخطاب لتصير نظرية عامة للفعل والنشاط الإنساني، شغلها الشاغل إنما هو دراسة اللغة في المقام ، الذي يهتم بما يفعله المستعملون بالألفاظ . وتذهب الدراسات إلى أن"شارل ساندرس بيرس"·1839ـ1914هو أول من ابتكر كلمة "البراجماتية"، وذلك في مقالته الشهيرة"كيف نجعل أفكارنا واضحة ؟" . و مما جاء فيها : ÷ لكي نبلغ الوضوح التام في أفكارنا من موضوع ما ، فإننا لا نحتاج إلا إلى اعتبار ما قد ترتب من آثار يمكن تصورها ذات طابع عملي ، قد يتضمنها الشيء أو الموضوع... ×([1]) . كما يعد "شارل موريس" أول من بادر إلى إرساء تعريف مقصود لمصطلح "التداولية" ؛ وخلاصة هذا التعريف هي أنها دراسة علاقة العلامات بمستعمليها ، أي دراسة اللغة أثناء ممارستها إحدى وظائفها الإنجازية والحوارية والتواصلية . وقد عدّها جزء من السيميائيات ، وذلك لمّا أقرّ بأن للسيميائيات ثلاثة فروع هي : ـ التركيب النحوي : ويُعنى بدراسة العلاقات الشكلية بين العلامات . ـ الدلالة وهي دراسة علاقات العلامات فيما بينها وبين الأشياء ، أي ارتباطها بالمعنى . ـ التداولية : وهي دراسة ارتباط العلامات بمؤوليها أي بمستعمليها . وينعت كل من "غرين"1989Green و "بليكومور"1990Blikmore التداولية بأنها فهم اللغة الطبيعية . وهي عند "الجمعية العالمية للتداولية" نظرية للتبني اللساني . ويرى "فارسشيرن"1987Werschueerenأن على التداولية أن تمعن الفكر أكثر في استعمالات اللغة من كل جوانبها . في حين هي عند "فرانسواز ريكانتي" فرع من دراسة استعمال اللغة في الخطاب . وفي نظر مؤسس التداولية ـ تداولية أفعال الكلام كما يحلو للبعض تسميتها ـ الأول "جون أوستين"·· أن وظيفة اللغة لا تقتصر على نقل وإيصال المعلومات وإرسالها . أو التعبير عما يجول في خواطرنا من أفكار ، وما يجيش في صدورنا من مشاعر وإظهارها . وإنما يجب أن تضطلع اللغة ـ وهو أمر موافق لطبيعتها ـ بتحويل ما يبدر من أقوال ، في إطار ظروف سياقية ، إلى أفعال ذات سمات اجتماعية . والتداولية عند كل من "أ.م.ديلر" و"ف.ريكاناتي"هي دراسة تهتم باللغة في الخطاب ، وتنظر في الوسميات الخاصة به ، قصد تأكيد طابعه التخاطبي . وما يمكن أن نخرج به من كل هذه التعريفات ، هو تكرار الألفاظ (اللغة ، المستعملين ، السياقات ، الخطاب ، التخاطب ، المخاطب ، أفعال الكلام ...) . وبتجميع هذه الألفاظ ، نستطيع تكوين فكرة شمولية عن معنى التداولية ووظيفتها . فهي مبحث لساني يدرس الكيفية التي يصدر ويعي بها الناس فعلا تواصليا ، أو فعلا كلاميا غالبا ما يأتي في شكل محادثة . كما أنها تهتم بالبحث عن الأسباب التي تتضافر لتؤدي إلى نجاح المتحاورين أثناء إجراء المحادثة أو التخاطب . فالتداولية ـ على ما يبدو ـ علم يهتم بعلاقة اللغة بمستعمليها ، هدفه إرساء مبادئ للحوار ، في علاقته الوثيقة مع المقام الذي ينتج فيه الكلام . ومن هذه التحديدات يعنّ لنا أن التداولية تخصص لساني يحدد موضوعه في المجال الاستعمالي ، أو الإنجازي لما نتكلم به ؛ ويدرس كيفية استعمال المتكلمين للأدلة اللغوية أثناء حواراتهم ، وفي صب أحاديثهم ، وفي خضم خطاباتهم . كما يعتني هذا التخصص بكيفية تأويل مستعملي اللغة لتلك الخطابات وتلك الأحاديث ، كما ويهتم أيضا بمنشئ الكلام (الخطيب ، المتكلم) ، وكذا السياق . ويقدم الدكتور "مسعود صحراوي" تعريفا واضحا للتداولية في كتابه القيم "التداولية عند العلماء العرب" ، وذلك بعد أن يُلف الانتباه إلى أن ميدان النقد والدراسات اللسانية لم يصبح حكرا على التيارين البنيوي والتوليدي وحسب . بل إن الساحة النقدية صارت تعج بالنظريات والمفاهيم اللغوية المتباينة ، والتي تمخّض عنها ميلاد عدد من التيارات اللسانية . ثم يعوج على التيار التداولي بقوله :÷وهو مذهب لساني يدرس علاقة النشاط اللغوي بمستعمليه ، وطرق وكيفيات استخدام العلامات اللغوية بنجاح ، والسياقات والطبقات المقامية المختلفة التي ينجز ضمنها "الخطاب" ، والبحث عن العوامل التي تجعل من "الخطاب " رسالة تواصلية "واضحة"و"ناجحة" . والبحث في أسباب الفشل في التواصل باللغات الطبيعية...×([2]). وفي معرض حديث الدكتور عن الفرق الجلي بين المنهج البنيوي والمنهج التداولي، يوصّف التداولية بأنها: ÷...ليستعلماً لغوياً محضاً بالمعنى التقليدي ، علماً يكتفي بوصف وتفسير البنى اللغوية ويتوقف عند حدودها وأشكالها الظاهرة ، ولكنها علم جديد للتواصل يدرس الظواهر اللغوية في مجال الاستعمال ؛ ويدمج من ثمّ مشاريع معرفية متعددة في دراسة ظاهرة " التواصل اللغوي وتفسيره"×([3]) . إن التداولية إذا تخصص لساني يدرس كيفية استخدام الناس للأدلة اللغوية في صلب أحاديثهم وخطاباتهم ، كما يعنى هذا التخصص من جانب آخر بكيفية تأويلهم لتلك الخطابات والأحاديث . ومن هنا جز لنا القول إن اللسانيات التداولية إنما هي لسانيات "الحوار" أو"الملكة التبليغية" compétence de communication ، والتي تقابل الملكة اللغوية الصرفة عند "تشومسكي" . وبالاستناد إلى هذه التعريفات تغدو التداولية العلم الذي يدرس الأفكار والمعاني والألفاظ والمفاهيم والإشارات ، وكل ما له علاقة بالاستعمال اللغوي . وبعبارة جامعة نقول إن التداولية هي أداة للتفسير والنقد معا ، تبدو قيمتها في اعتبارها وسيلة معرفية نلجأ إليها لتعيننا على فهم ومعرفة وتمييز هل أن ما نبحث فيه له قيمة ومعنى أم ليس له ذلك ؟ .كما أننا نتمكن بواسطتها من قياس درجة الصحة والخطإ في المواضيع التي ندرسها . ثم هل هي جديرة بان تأخذ منا الجهد والوقت في البحث عن خصائصها أم لا ...؟ . التداولية في النقد الحديث والمعاصر : إن التيار التداولي حقل لساني تبلور في السبعينيات من القرن الماضي ، وهو العلم اللغوي الأحدث بين بقية العلوم اللغوية الأخرى . فهو نظرية نقدية لمّا يكتمل بناؤها بعد ، استمد قوته من ميدان اهتمامه ، حيث اهتمّ بدراسة أفعال النطق التي ظلت ردحا من الزمن مغيبة عن الدراسة والتحليل ، بداعي وجود حواجز وهمية بين اللغة والكلام ، بين الدلالة والاستعمال . لذلك فإن أساس التداولية قائم على رفض ثنائية "دي سوسير" الشهيرة ، اللغة / الكلام langue/parole ، والتي مفادها أن اللغة وحدها دون الكلام جديرة بالدراسة العلمية ، وجديرة باهتمام اللسانيين . في حين تهدف التداولية إلى دراسة العلاقات الموجودة بين اللغة ومتداوليها من الناطقين بها . فكان أن حملت على عاتقها مهمة تحليل عمليات الكلام ، ووصف وظائف الألفاظ اللغوية ، وبيان خصائصها عند التواصل اللغوي . عن التداولية منهج للتحليل ينشد "الحقيقة الفعلية" في تناول الظواهر اللغوية ، أي يحلل الوقائع ضمن صلتها بسياقاتها الفعلية التي ولدت في حضنها . ومن هنا وبالنظر إلى شساعة دائرة اهتمامات التداولية ، صارت نظرية صعبة التقنين وعصية الضبط ، فلا يمكن النظر إليها على أنها مذهب نقدي مختص بأتم معنى الكلمة . فقد تأكد للمختصين في هذا المجال أن الإحاطة بتعريف التداولية صعب ، وأن ضبط مناهجها عناء ، وأن حصر أهدافها مشقة . إلا أن هذا الوصف ينبغي أن يجعلنا نتقبل هذا المذهب بشيء قليل من الدهشة والاستغراب ، خاصة إذا ما علمنا أن التداولية تخضع لهيمنة طائفة من التيارات العلمية المختلفة ، تمس أسسها المنهجية ، بل وقد يتعدى الأمر إلى التشكيك في هويتها كاختصاص لساني ، وفي ذلك يقول د/حسن يوسفي :÷ إن التداولية حقل لساني ملتبس ...(وتبدو) التباساته بحيث يصعب على المتتبع لتطور اللسانيات المعاصرة أن يعرف الحدود الفاصلة بين المجالات اللسانية المعروفة وبين التداولية . ويستعصى عليه بالتالي تحديد موضوع هذه الأخيرة ، وإبراز نماذجها النظرية وأجهزتها الإجرائية ×([4]) . ومن جهتها تعترف الباحثة "كاترين كربرات أوركيوني"· بهذا الغموض الذي يعتري حدود التداولية بقولها:÷هل يمكن القول أولا:التداولية أو التداوليات؟.هل هي تخصص أو ملتقى تخصصات مختلفة؟ ([5]). وعلى شاكلتها يقر "دو#### مانجينو" بصعوبة تحديد ماهية التداولية في كتابه "التداولية للخطاب الأدبي" Pragmatique pour le discours littéraire . ولهذا تعد التداولية كدراسة علمية في حقل اللسانيات لا يزال السؤال يطرح حول ما إذا تم تحديد ماهيتها كحقل لساني ،وقد انبثق عن هذا إشكاليات معقدة ، من مثل : ما هي حدود وفرضيات وأدوات التداولية ؟ ويأتي الجواب من "أرمونجو فرانسواز" بأن÷ الإجماع لم يتحقق بعد بين الباحثين فيما يخصّ تحديد فرضياتها ، ولا حتى فيما يخصّ مصطلحاتها . يلاحظ بجلاء ، على العكس من ذلك ، إلى أي حد تشكل ملتقى غنيا لتداخل الاختصاصات بين اللسانيين ، المناطقة ، السيميوطقيين ، الفلاسفة ، علماء النفس ، علماء الاجتماع ×([6]) . وعلى الرغم مما يسجل من التداخلات والالتباسات الناجمة عن علاقة التداولية بشتى العلوم ، فقد أمكن تعيين مجموعة من القضايا اللغوية التي هي محل اهتمام التداولية ، وتدخل في نطاق تخصصها . كما تم أيضا معرفة جملة من المسائل التي تشكل موضوعا لها . ومن ذلك محاولة التداولية إيجاد الإجابة للأسئلة التي كانت محل قلق وإزعاج للمباحث اللسانية السابقة . ومن هنا تبدو قيمة البحث التداولي في كونه يسعى إلى الإجابة عن بعض الطروحات اللسانية السابقة ، من قبيل : ÷ ـ من يتكلم ؟ . ـ من هو المتلقي ؟ . ـ ما هي مقصديتنا أثناء الكلام ؟ . ـ كيف نتكلم بشيء ، ونسعى لقول شيء آخر ؟ . ـ ماذا علينا أن نفعل حتى نتجنب الإبهام والغموض في عملية التواصل ؟ . ـ هل المعنى الضمني كاف لتحديد المقصود ؟×([7]). إن هذه الأسئلة ، وغيرها مما هو على شاكلتها ، لهي محل إثارة فعلية لقضايا لغوية متعددة المرامي . تتم الإجابة عنها في التداولية بصيغة تتماشى والطابع المتجدد والجدالي لهذا المبحث اللساني الذي يبدئ الفكر ويعيد في المباحث والمواقف التي ميّزت الأبحاث اللسانية السابقة ، فيبعث بعضها من جديد ، ويطور بعضها الآخر . وتقر الدراسات المهتمة بالنقد الحديث على أن دراسة المعنى وعلاقته بموقف الكلام ، توجه جديد يحتل قمة اهتمامات التداولية . وللكلام جوانب كثيرة طالها مجال الدرس التداولي نجملها في : المخاطَبين والمخاطِبين ، وسياق التفوه ، والفعل الإنجازي ، والتفوه بوصفه نتاجا . وقد نجم عن هذا الاهتمام العام أن تفرعت عنه موضوعات كثيرة هامة ، تجتهد التداولية في معالجتها والبحث فيها ، منها : المفردات التأشيرية ، والتضمينات المحادثية ، الاقتضاء ، والمعاني الحرفية ، والمعاني السياقية ، وأفعال الكلام وتصنيفاتها ، وتحليل الخطاب ، وتحليل المحادثة ... . وبالنظر إلى مباحثها ، تغدو التداولية بحق ÷ نظرية استعمالية ، حيث تدرس اللغة في استعمال الناطقين بها ، ونظرية تخاطبية تعالج شروط التبليغ والتواصل الذي يقصد إليه الناطقون من وراء الاستعمال للغة×([8]). وبفضل توجهاتها الجديدة هذه ، تحولت الدراسات اللسانية من مجال اللغة إلى مجال الأدب، ولذلك صارت تنعت بالتداولية الأدبية ، والتي موضوعها دراسة النصوص وتحليلها . وبعبارة أخرى أكثر وضوحاً ، فقد نقلت التداولية النص من الدراسات التي كانت منصبة على المستوى النحوي والدلالي والمعجمي ، إلى المستوى التداولي ، حيث نلفي أن جهود المنشغلين في حقل النصوص الأدبية تركّز على مفهوم "التواصل" القائم على أساس الفهم والتأويل . هذا التواصل الذي كان محل اهتمام القراءة باعتبارها÷ تواصلاً يتحقق بين القارئ وموضوع القراءة ، فالوصفية النقدية في إطار عملية القراءة ، وظيفة تقوم على أساس السعي إلى تحقيق تواصل فعّال بين القارئ وموضوع القراءة . وكأي تواصل تحتاج عملية القراءة إلى أسباب لعناصر الموضوع المقروء ، وإحاطة بالعوامل الفاعلة فيه ، مثل السياق ، ومقاصد الكلام ×([9]) . هذا التوجه الجديد حدا بالدراسات النقدية الحديثة إلى إحداث تحول في مضامينها أيضا ، فانتقلت بموجب ذلك من الاهتمام بمستويات الصياغة اللفظية والنصية إلى إيلاء الاهتمام بالحدث الأدبي وما يرتبط به من الاتصال الاجتماعي ، أي التحول إلى العناية بالمستوى التواصلي ، وما يتعلق به من سياقات أو تحديدا سياقية . في حين كانت هذه الدراسات تهتم باللغة في مستوى النص كنظام ؛ ويعتبر بهذا بديلاً نقديا للنظريات الأدبية السابقة ، كلسانيات الجملة ، واللسانيات النسقية ، والأسلوبية ، والبنيوية ... . إن هذا العلم الفتي ما فتئ يتطور منذ ظهوره إلى الآن ، حتى أضحى رافداً هاماً من روافد الدراسات اللسانية المعاصرة ، التي اهتمت بالتحليل التداولي الذي يتميز بالتداخل في الاختصاصات . وعليه فقد جاءت التداولية لتناقض مفهوم الشكل الواحد للمعنى ، وتدعو إلى تقويض مبدإ الاعتداد بالملفوظ اللساني كدليل وحيد ، أو كعامل فريد لبناء جمالية النص ، وتحليل بنيته وفقْهه من قبل المتلقي . وإنما يمكن لهذا القارئ أن يعيد إنتاج النص بواسطة فعل الفهم والإدراك ، بحيث صارت نظرية التلقي وجهاً من وجوه نظرية الأدب . فجمالية التلقي لم تكتف بالاعتماد على الذاتية ومعطياتها ، ولا على قراءة الحدس ، وإنما عمدت إلى إشراك فعل الفهم ، والمقدرة العقلية الواعية ، واستثمار مرجعيات كثيرة ومتنوعة ، والتي من شأنها أن تساهم في إذكاء عملية التفاعل مع بنية النصوص وعبر علاقة حوارية معه ، غرضها إمعان النظر أكثر في ما يعتري القارئ من ردود فعل وقت التلقي، واستقراء كيفية وقوفه بنفسه على حلقات المعرفة وطبقاتها. وبهذا فإن جمالية القراءة تهدف إلى دراسة ميكانيزم التلقي بواسطة استثمار مقولات الفلسفات الذاتية والحقول الإجرائية الجديدة في تأسيس علم النص .هذا النص الذي من مميزاته أنه يقاوم فكرة اختزان معنى ما ، بقطع النظر أنه سطحي أو عميق ، إنما هو نص قائم منذ البداية على تعددية المعنى ، تشكيلا وتلقياً ، وأن تحليله هو نشاط نقدي يستند إلى مفاهيم نظرية متنوعة . أما قواعده فهي إجرائية تنزع إلى تنوع الركائز المنهجية التي يتبناها المحلل ، وهو يؤمن بهذه التعددية ، ويعترف بهذا الانفتاح ليتحاشى بذلك الزعم بالقول الفصل ، أضف إلى هذا كله ، الانفتاح على مداخل أخرى تداولية ، من نفسية واجتماعية وسياقية ...إلخ . إن المنظرين الأعلام الذين نظّروا لهذا العلم الجديد وأولهم الفيلسوفان "ج.أوستين"وتلميذه "سيرل"· ، ثم عالم الاجتماع "غوفمان" ، فالمتخصص في دراسة الأعراق "غمبرز" ، فمدرسة "بالوألتو" ذات التوجه النفسي ، و"فيتغنشتاين"... كل هؤلاء كانوا من السباقين الذين ساهموا في إرساء قواعد التداولية ، يركزون على أن موضوع التداولية هو دراسة الظواهر اللغوية أثناء الاستعمال . ويلحون على أنه موكل إليها دراسة القصد الإخباري ، أو معنى الجملة ، ودراسة القصد التواصلي و معنى المتكلم .وأما المقدرة على الإدراك وإنتاج فعل تواصلي ما فتدعى"القدرة التداولية" كما يسميها "كاسبر" 1997Kasper . وما يمكن أن نستنتجه من كل ما تقدم ، هو أن التداولية قد أولت أهمية بالغة إلى الجانب الاتصالي ، أي دراسة اللغة في علاقتها بمستخدميها . في حين ظلت الدراسات اللسانية الفارطة تستبعده ، واعتنت فقط بالتراكيب والمعاني . وفي هذا الصدد نعثر في "دليل الناقد" على ما يؤكد هذا الكلام : ÷ وفي الطرح اللساني ، ركزت الذرائعية على ما أهملته اللسانيات . فإذا ركزت اللسانيات على علم التركيب وعلم المعاني ، فإن الذرائعية (...) ركزت على الجانب الاتصالي ، أي علاقة الإشارة بمستخدميها . هذا الجانب ظل مستبعداً دائما من قبل اللسانيين الذين ركزوا أبدا على جوانب القواعد الشكلية وميّزوها عن الاستخدام اليومي العادي (...) . حتى "نعوم تشومسكي" اتبع هذا النهج ، إذ سعى إلى استخلاص موضوع ألسني وعزله عن الاستخدام العام اليومي ، ليكون قابلاً للدرس العملي ، لكن ردود الفعل توالت حديثاً ضد هذا الاستبعاد ، إذ يرى صحاب الذرائعية (أو التبادلية) أن اللغة لا يمكن أن تنعزل عن استخدامها وتنحصر في علمي النحو والمعاني ، بل إن الاتصال يلعب دورا فاعلاً إذا أردنا أن نفهم حقيقة اللغة ×([10]) . ومن آثار هذه التحول الجديد ، أن برز توجه جديد ، ممثلا في دراسات نقدية مغايرة ، تساير هذه التحول الداعي إلى الاهتمام بدراسة الأدب في علاقته الاتصالية وظروفه السياقية ؛ معلنة في نفس الوقت عن عقم الدراسات اللسانية التي أخرجت هذه العلاقة من دراستها . ومن هذه الأعمال على سبيل المثال لا الحصر ، ما قام به "ستيفن ليفنسون" في مؤلفه الموسوم بـ : "pragmatique" ، والذي يعترف فيه بكل وضوح بأن ÷ نظرية علم المعاني لا تُعيننا كثيراً على فهم اللغة ×([11]) . وتماشياً مع هذا التطور الطارئ على الدراسات الأدبية الحديثة ÷ فقد ركزت الذرائعية على سمة الأدب الاتصالية انطلاقا من أن الاتصال عموماً لا يكتمل دون أخذ الأدب وسياقه في الاعتبار . كما أن دراسات الأدب لا تكتمل دون الأخذ في الاعتبار توظيف لأدب لمصادر الاتصال المختلفة . إن أبعاد هذا الطرح لا شك مثرية ، فالأدب لم يعد نصاً مغلقا أو بنية شكلية معزولة عن سياقها ، بل إن هذا الاتجاه أعاد إلى الدرس الأدبي الصلة القديمة بين الخطابة والشعرية . ولهذا فإن الدراسة الذرائعية / التبادلية للأدب تسعى إلى اكتشاف التقنيات العلمية في النص (الإيحاء ، والافتراض المسبق ، والإقناع) ، وربطها بالقوى الخارجية في عالم الكاتب والقارئ ، مثل علاقات القوى والتقاليد الثقافية وأنظمة النشر والتوزيع والرقابة ، وهلم جرا . ويبقى التركيز في كل هذا على صلات الاتصال والتفاعل الخاصة والدقيقة الفعلية×([12]) . وهذا الاستشهاد يسمح لنا بالقول ، إنه إذا كان علم التركيب يهتم بدراسة العلاقة بين العلامات في طار الجملة ، وإذا كان علم الدلالة ديدنه البحث في العلاقة بين العلامات والأشياء . فإن التداولية في النقد الحديث تدخلت لجبر النقص الملاحظ في كلا العلمين ، بإهمالهما الجانب التواصلي ؛ فأخذت على عاتقها دراسة علاقة العلامات بمستعمليها ، واضعة لمنهجها مفاهيمه الخاصة به ، تلك المفاهيم لم تكن ذات شأن من قَبلُ في فلسفة اللغة ، وفي اللسانيات البنيوية ،ولم تتوصل إلى معالجتها بكيفية حاسمة . ذلك أن اللغة البشرية إنما هي خزان مقاصد ، وينبوع معاني ، ينهل منه الناس لتحقيق أغراضهم ، وقضاء مأربهم ، والإفصاح عن أفكارهم . و لا يتم كل ذلك كله إلا بواسطة آلة التعبير عن المعاني في السياق المناسب ، وإن لم يكن هذا ، فما جدوى اللغة التي نتكلم بها إذا لم تكن حاملة للمعاني ، ومفسّرة لأحوال الناس ، ومفصحة عن مكنوناتهم ، ومحققة لأغراضهم ؟ . التداولية : الظهور والمنشأ والتطور : 1 ـ الدراسات اللغوية : من البنيوية إلى التداولية : مما هو معلوم أن البحوث اللسانية قد انصب اهتمامها على الدراسات اللغوية من جميع جوانبها ، وما تثيره هذا الدراسات من قضايا جوهرية على شاكلة : أصل اللغة ونشأتها وتطورها ... ولكن الذي غلب على هذه النظريات ، وهي تتناول اللغة بالدراسة والبحث، هو أنها تناولتها في جانبها الصوري الوصفي. كما أن كل دارس قد درس اللغة من وجهة نظر الأدوات المنهجية التي يوظفها في تحليله ذاك . وهذا يفسر طول عمر "المرحلة الوصفية" في القرن المنصرم ، هذا عامل . والعامل الثاني يتمثل في بطء تحول نظرة اللسانيات الشديد من التأمل الوصفي للظواهر اللسانية ، إلى الرؤية التفسيرية لهذه الظواهر . ولذلك فلا نعجب إذا ما عثرنا على "الأدوات الوصفية" التي ما يزال بعضهم يستعين بها في الدراسات اللسانية . ولاسيما في وطننا العربي ، الذي عجز عن مسايرة تقدم العلوم اللسانية عند غيرنا من أمم أوربا ، وسيان في ذلك الشق النظري والشق المنهجي . حينما ظهرت المدرسة البنيوية كان من مبادئها أنها دعت إلى تحليل العمل الإبداعي على أساس أنه آلة لتصنيع الأشكال اللغوية القابلة للتفكيك ، ثم إعادة التركيب والبناء ، ÷فالنص الإبداعي في نظرهم عبارة عن رقعة شطرنج قوامها المداخل المعجمية المرموقة وفق قوانين البنيوية ، أي علائقية ، باعتبار أن مفهوم البنية يقوم أساساً على العلاقات قبل أن يقوم على الكيانات المعزولة ×([13]). وفي زمن لاحق لهذه الدراسة، برز إلى الوجود مصطلح جديد يدعى "التفكيكية"، وهي بمثابة التحليل العلمي للإبداع في جميع مظاهره. ولقد واكب حركة التفكيك هذه نشوء ما يسمى "البنيوية التكوينية" ، والتي ألحت على إقحام المكون الاجتماعي في التحليل البنيوي . وكان من نتائج هذه الدعوة أن ظهر ما يعرف بـ : "سوسيولوجيا الأدب" بزعامة "لوسيان قولدمان" ، و"أمبرتو إيكو" وذلك من خلال كتابه "البنية الخفية" والتي يقصد بها "البنية المجتمعية" . وهو أمر لم تكن تعترف به تعاليم البنيوية فيما سبق ، لاعتقاد أصحابها أن هذه البنية تنأى بالناقد عن الآلية الإبداعية . ناهيك من أنه مكون يشوش على الناقد ، ويحُول بينه وبين الوصول إلى المكونات الأساسية للنص ، أي لبنية النص المدروس . ومع ذلك واصلت البنيوية مدها الذي بلغ منتهاه في تحليل النص الأدبي ، خاصة مع ظهور التوجه البنيوي الذي على في الدعوة إلى التحليل الوصفي ، وتشدد في تطبيق إجراءات المنهج الشكلي . ومن رواده : غريماس ، جيرار جينيت ، كورتيس، دريدا ... وآخرون . وبعد هذا كله حل عصر الاتجاه التداولي ، والذي نتوسم فيه أنه من الممكن أن يقدم للنقاد والعاملين في حقل الأدب ، والمتعاملين مع النصوص الأدبية ، أدوات إجرائية ومنهجية تعينهم على أن ينْفذوا إلى أعماق البنية الإبداعية عند المبدع ، كما تُعين المؤلف على أن يبلور نظرة نقدية للنص الذي أبدعه .ومن هنا تكمن فائدة هذا المنهج في أنه يقدم أدوات جديدة للعمل النقدي الذي يتعامل فيه مع جميع النصوص الإبداعية ، والتركيز على النص "المتحرك" ، أي معاينته أثناء أدائه وظيفته التواصلية . أن التداولية كمبحث لساني حديث الظهور ـ ذلك أن الاهتمام بالبعد لتداولي للغة ليس منا ببعيد ـ حيث يؤول زمن بروز البحوث المنجزة في إطار السياق الثقافي الغربي ـ باعتباره المرجع الأساس لهذا النوع من الدراسات ـ إلى فترة الثمانينيات . غير أن هذا لا يمنعنا من القول بأن قبسات هذا المبحث قديمة جدا ، فقد عثر على كلمة "Pragmaticus" (التداولية) عند الإغريق واللاتين، والتي تدل على كلمة "عملي" . بينما الاستعمال الحديث للتداولية Pragmatiqueيعود إلى تأثير الفلسفة الأمريكية "البراغماتية"([14]) . وذلك بعد أن توسع مفهوم البراغماتية ليشمل معاني المحادثات . فمنذ أن نبّه الفيلسوف "شارل موريس" في كتابه "أسس نظرية العلامات" 1983 إلى أن التداولية يجب أن تهتم بدراسة علاقات العلامة بالمؤولين ، مذ ذاك انصب اهتمام التداولية على البعد العملي للمعنى ، أي معنى المحادثة . هذا التنبيه نجم عنه لفت نظار النقاد والباحثين إلى أهمية تفسير المحادثات الواقعة فعلا . واستنادا إلى ذلك ، فقد تم توصيف التداولية بأنها فهم اللغة الطبيعية . وبهذا تم استقلال التداولية عن الفلسفة البراغماتية التي كانت الموجه لمبحث التداولية ، وغدت رافدا فرعيا لنهر اللسانيات الكبير . لقد شهدت الدراسات التداولية تطورا سريعا في الغرب الأنجلوساكسوني ، ويعزى هذا التقدم إلى جهود الباحثين الذين كان لهم الباع الطويل في هذا التطور . وذلك ما حصل في بلدان الأراضي المنخفضة والدانمرك والنرويج وبلجيكا . وكان من ثمرات هذا التطور أن تمخض عن ميلاد "الجمعية التداولية العالمية" IPRAالعام 1987 . وفي معترك هذا التطور ، ظلت التداولية ذات وجهة فلسفية توجهها الممارسات الفلسفية . ولكنها ما انفكت تشهد تحولها التدريجي منذ سنوات نحو تشكلها كحقل لساني بالإبقاء على كينونتها العلمية في معالجة المعنى اليومي . وما تجدر إليه ها هنا هو أنه بالرغم مما بذهب إليه الكثير من الباحثين من أن التداولية Pragmatique، والمذهب الذرائعي الفلسفي Pragmatismeمختلفان· إلا أن بعض الباحثين يرى أن المذهب الذرائعي هو أحد مصادر التداولية ، وأصل التسمية يعود إلى منظري السيمياء مثل :"ش.س.بورس"··،"شارل موريس"، "جون ديوي"...([15]). ونتيجة لذلك يسجل المتتبعون لمسار الدراسات التداولية بأنها سارت في اتجاهين اثنين هما : الدراسات اللسانية والدراسات الفلسفية . فالدراسات اللسانية استعملت التداولية بوصفها جزء من السيميائية اللسانية ، وليس بعلاقتها بأنظمة العلامات عموماً . ويلاحظ بأن هذا الاتجاه اللساني ما زال ساريا لحد الآن في اللسانيات الأوربية .بينما الدراسات الفلسفية ، وبالأخص في إطار الفلسفة التحليلية ، فقد خضع مصطلح التداولية إلى عملية تضييق في مجاله . فها هو الفيلسوف "كارناب" يساوي بين التداولية والسيمياء الوصفية ، بيد أن هذه البحوث التي استندت إلى هذا الفيلسوف قد اعتراها التوسع لتشمل دراسات من خارج اللسانيات ، نذكر منها : دراسات فرويد ، ويونغ عن "زلات اللسان" و"تداعي الكلمات" . ذلك أن التطور الحاصل في نظرة "كارناب" بيّن مدى أهمية وضع قيمة زمان ومكان الحدث الكلامي في الحسبان ، علاوة على دراسة اللغة المستعملة . ولهذا كان من المناسب جداً أن يتغلغل إلى تعريف "كارناب" لتداولية مفهوم "السياق" . هذا السياق الذي ينطوي على هويات المشاركين في الحدث الكلامي ، ومقاصدهم منه ، والمحددات الزمانية والمكانية ، والمعتقدات . وكذلك من جهته فقد ساهم تعريف "موريس" للتداولية في النهوض بمجموعة من الدراسات شملت دراسة الظواهر النفسية والاجتماعية الموجودة داخل أنظمة العلامات بشكل عام ، أو داخل اللغة بشكل خاص . ودراسة التصورات التجريدية التي تشير إلى الفاعلين ، وكذا دراسة المفردات التأشيرية·. واستنادا إلى ما قيل عن هذا المنهج الجديد ، تشير الدراسات إلى أن ظهور التداولية كمنهج ونظرية ، يعود الفضل فيه إلى الفيلسوف الإنجليزي "ج.أوستن" ، بصدور مؤلفه "كيف نصنع الأشياء بالكلمات"، واصفا التداولية بأنها: ÷ جزء من دراسة أعم : هي دراسة التعامل اللغوي من حيث هي جزء من التعامل الاجتماعي ×([16]). فإذا ما نحن تقفينا الأثر ، ودققنا النظر في التعريف الأوستيني ، نستشف أن هذا الفيلسوف يروم نقل دراسة اللغة من النظر إليها من جانبها اللغوي والنحوي والنفسي لها ، إلى المستوى الاجتماعي ، ودائرة التأثير والتأثر من خلال استعمال اللغة لتحقيق التواصل . الأمر الذي أدى إلى نشوء جملة من التيارات في إطار دراسة التعامل اللغوي أهمها ÷ التيار الأوستيني أو البراغماتية عند استعمال اللغة ×([17])، ويُعدّ "غرايس"Griceأحد أبرع أعلام هذا التيار .
2 ـ الأصول الفلسفية للتداولية : لقد سبق لي وأن قلت بأن "وستين" (1911 ـ 1961) وتلميذه "سيرل" (1932) ، هما اللذان أحرزا قصب السبق في وضع أساس بناء التداولية في الحقل الفلسفي ، وخاصة في فلسفة اللغة المستعملة (العادية) . فهما اللذان ابتكرا متصور "العمل اللغوي" انطلاقاً من نظرة المنطق التحليلي ، الذي يوافق طبيعة اختصاصهما . ففي فترة الستينيات أولى الفلاسفة كبير عناية في دراساتهم الأدبية إلى التأثيرات الجملية للخطاب ، في حين نجد "أوستين" ـ آنذاك ـ كان أول من بعث نظرية "الأعمال اللغوية" . وما ينبغي ذكره في هذا المجال ، هو أن اهتمام الفلسفة باللغة واقع منذ أمد بعيد ، الأمر الذي جعل كثيرا من النقاد يعتبرون البلاغيين القدماء أقرب من غرهم إلى المنهج التداولي ، لأن اهتمامهم انصب في حقل البلاغة على البحث في العلائق القائمة بين اللغة والمنطق ، وبالتحديد دراسة اللغة الحجاجية وتأثيرات الخطاب في السامعين . وهذا بالفعل ما تتسم به البلاغة منذ القديم بدء بـ"أفلاطون"و"أرسطو" ، وصولاً إلى "سِناك" و"شيشرون" و"كونتليان" . إذ كان هدف البلاغة قائما على معرفة "الانفعالات"و"الأهواء" . من ذلك ما نجده عند "أرسطو" ، مثلا ، حينما حاول التفريق بين نمطين من الخطاب ، فدعا أحدهما "الخطاب الجدلي" الذي يتوجه إلى شخص واحد مجرد ، ويختزل في وضعية السنن اللساني . وسمى الثاني "القول الخطبي" والذي يتوجه إلى مخاطب واقعي يتمتع بموهبة الجدل والمنافحة ، ويمتلك أهواء وعادات ثقافية . ثم عمد إلى الأقوال الخطابية هذه فقسمها إلى ثلاثة أجناس بحسب معيار العلاقة بين القول والمستمع بغض النظر عن مضمونه، وهي : 1 ـ جنس مشاجري : وهو الجنس الذي يعرّف بكونه يتضمن أحكاماً على الأعمال المنقضية . 2 ـ جنس منافري : يدين أو يرفع شأن الأعمال التي تكون بصدد الوقوع . 3 ـ جنس مشاوري : يقترح حلولاً يبقى تحققها رهين الإمكان إذ جهتها استقبالية أساساً . والذي دفعني لأن أذكر كل هذه الأعمال اللغوية المميزة ، لأنها هي التي كانت محل اشتغال كل من "أوستين"و"سيرل" . فالخطابة عند "أرسطو" أداة مقالية للتأثير تتجلى في الخطاب ، في حين هي عند "أفلاطون" وسيلة واقية ذات هدف أخلاقي . والخطيب الحاذق في نظر "أرسطو" هو ذاك الذي يتمثل الحضور النقدي للسامع ، حتى وإن توارى ذلك الحضور وراء حوار باطني ، وقد تسرّب هذا الفهم للحوار إلى التداولية الحديثة . ولقد ظل المنهج النقدي الأرسطي في الخطابة أو المنطق مسيطراً حينا من الدهر على الفكر الغربي إلى غاية التاسع عشر ، بل وتواصل تأثيره في الدراسات اللسانية إلى يومنا هذا . بدليل أننا قد نعثر على إحالات كثيرة على "أرسطو" في مقاربة اللغة والكلام والنصوص التي صدرت عن المدرسة الفرنسية خاصة ، إذ نجد أن في الكثير من دراساتها تعتمد على المنهج الاستنتاجي ، وهو نهج منطقي هيمن بواسطة طرائقه الشكلية والمعيارية . وبهذا فقد غدت الخطابة عند "أرسطو" الدعامة الأساسية للنظرية النقدية في الأدب والنقد المسماة "الشكلانية" . والتي تعتبر الفن نتاج التطبيق الصارم للطرائق الشكلية ، وهو ينزع إلى نوع من الشعرية التي أسسها "جاكبسون" . وقد عادت التداولية بعد فوات مرحلة مؤسسيْها "أوستين"و"سيرل" إلى التحليل الحجاجي خاصة مع لسانيين فرنسيين على شاكلة : "أزفالد ديكرو" ، و"كربرات أوركيوني" . إن الحديث عن "النظرية التواصلية" يفرض علينا أن نذكر مؤسسها البارز"فان ديجك" ، الذي ÷ وضع تخطيطا من ناحية البرنامج للذرائعية الأدبية بوصفها مكملا لا فكاك عنه نظرية النص ×([18]) . ومنذ العام 1975 يعتري تحول على توجه "ديجك" ، إذ تحول عن علم الدلالة إلى نظرية أدبية عامة ÷ تشتمل على نظرية للنصوص الأدبية ونظرية للتواصل الأدبي ×([19]) . ومنذ ذلك الوقت تغيرت الرؤية إلى أدبية النص ، فبعدما كان ÷ الاعتراف بما هو أدبي يتحقق بواسطة الخصائص البنيوية وجملة الملامح اللفظية ، أصبحت الأدبية تتحدد من خلال الاعتراف بإنتاج معين وخاص ، واستقبال خاص أيضاً ×([20]) . وعليه فقد تدرجت التداولية في مدارج التطور إلى أن ÷ أصبحت في مراحل متأخرة جدا نظرية للسياقات ، تبحث في سياق الإنتاج والاستقبال ، ثم إلى نظرية في الأفعال الكلامية ×([21]) ، وقد تكون هناك مراحل أخرى ستعرفها التداولية مستقبلا .
·عالم أمريكي ، حاصل على شهادات عليا في الكيمياء والفيزياء والرياضيات . عمل سنة 1860 في مصلحة "الجيوديزيا"(علم من علوم الأرض) . درّس بجامعة هارفارد ، ثم بجامعة هوبكينز. ورغم علمه الكبير وشهاداته العليا ، لم يحصل على منصب قار في الجامعات التي عمل بها ! بسبب مواقفه ومزاجه الصعب . فعرف الجوع والفقر وخيبات الأمل ، واضطر إلى بيع مكتبته القديمة التي كان يعتز بها كثيرا (حوالي 295 كتابا) باعها بثمن بخس (550 دولارا فقط !) . وبعد وفاته ينعت "بورس" بأنه أكثر فلاسفة أمريكا المعاصرين علما ! .
المصادر:
[1] ـ سماح رافع ، المذاهب الفكرية المعاصرة ، ص 49 ـ 52 .
··ج . أوستين (1911ـ1960) : فيلسوف إنجليزي ، شغل منصب أستاذ في فلسفة الأخلاق بجامعة أكسفورد . ويعتبر المؤسس الأول لتداولية أفعال الكلام ، هذه النظرية حولت نظرة الدراسات اللسانية السابقة . كتابه الوحيد الذي نشره له تلامذته، ومنهم "ج . سيرل" بعد وفاته هو : كيف نصنع الأشياء بالكلمات ؟ (How to do things with words?) ويشتمل على جملة من المحاضرات التي ألقاها على طلبته في جامعة أكسفورد والجامعات الأمريكية .
[2] ـ مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب دراسة تداولية لظاهرة "الأفعال الكلامية" في التراث اللساني العربي ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، بيروت، لبنان ، ط2005 ،ص 05.
[3] ـ مسعود صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب، مرجع سابق ، ص 16 .
[4]ـ حسن يوسفي ، مقالة بعنوان : المسرح والتداولية .
· ك.ك.أوركيوني ابتدأ مشوارها العلمي من دراستها في مدرسة دار المعلمين العليا ، ثم شغلت منصب أستاذة مبرزة . تحصلت على شهادة الدكتوراه في اللسانيات . شغلت منصب أستاذة بجامعة ليون الفرنسية . من كتبها : L'implicite,Les interactions verbales , La connotation …. .
[5] ـ Armengaud Françoise , La pragmatique que – sais – je ? PUF , 1985 , P 09 .
[6] ـ IBID . P 09 – 10 .
[7] ـ على آيت أوشان ، السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط1ـ1421هـ /2000، ص 56 ـ 57 .
[8] ـ تكامل المعارف : اللسانيات والمنطق ، حوار مع د/طه عبد الرحمن ، دراسات سيميائية لسانية أدبية ، العدد الثاني ، 1987 ـ 1988 ، المغرب .
[9] ـ مجلة الوصل ، معهد اللغة والأدب العربي ، جامعة تلمسان ، العدد الأول، جانفي 1994 ، نظرية المقاصد بين حازم ونظرية الأفعال اللغوية المعاصرة ، محمد أديوان ، جامعة الرباط ، كلية الآداب ، ص 25 .
· جون سيرل : فيلسوف أمريكي معاصر ، وهو أحد مؤسسي التداولية ، ينتمي إلى تيار الفلسفة الحديثة التي طورها "أوستين" ، درس بجامعة كاليفورنيا . ويطمح إلى تصحيح الكثير من المفاهيم السابقة من مؤلفاته : Les actes de parole indirects , Sens et expression و "العقل واللغة والمجتمع : الفلسفة في العام الواقعي" تر : سعيد الغانمي . "أفعال الكلام" ، "التعبير والمعنى" ، "القصدية" .
[10] ـ ميجان الرويلي وسعد البازعي ، دليل الناقد الأدبي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، المغرب ، ط3/2000 ، ص 169 .
[11] ـ م ن ، ص ن .
[12] ـ ميجان الرويلي وسعد البازعي ، دليل الناقد الأدبي ، م س ، ص 169 .
[13] ـ محمد الحناش ، الأساس المعرفي لمنظومة الإبداع (مقاربة لسانية ـ تداولية) ، مجلة التواصل اللساني ، المجلد العاشر ، العددان 1 ـ 2 / 2001 ، ص 73 ـ 97 .
[14] ـ عادل الثامري ، التداولية واللسانيات ، مجلة دروب مقال في 19 /5/ 2006 . الموقع على الإنترنت [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] .
· التداولية : ترجمة للمصطلحين : الإنجليزي Pragmaticsبمعنى هذا الذهب اللغوي ، التواصلي الجديد... والمصطلح الفرنسي La Pragmatique بنفس المعنى . وليس ترجمة لمصطلح Le Pragmatisme الفرنسي . لأن هذا الأخير يعني "الفلسفة النفعية الذرائعية" . أم الأول فيراد به هذا العلم التواصلي الجديد الذي يفسر كثرا من الظواهر اللغوية كما أشرنا . ولذلك لا نتفق مع الباحثين العرب الذين ترجموا مصطلح La Pragmatique / Pragmatics بـ : "الذرائعية" أو غيرها من المصطلحات المتحاقلة معها . عن م. صحراوي ، التداولية عند العلماء العرب، م س ، الهامش ، ص 15 .
·· اسم Peirce يكتب وينطق بالعربية "بورس". جاء هذا التوضيح في كتاب"السيميائيات والتأويل مدخل لسيميائيات ش.س.بورس" لـ سعيد بنكراد ص 11، وكتب أخرى مدونة على ص 11 و 12 من نفس الكتاب .
[15] ـ ينظر : د/ميجان الرويلي ود/سعد البازعي ، في : دليل الناقد الأدبي ، م س ، ص 167 .
· الإشاريات Déictiques : وهي الحركات التي تدل بواسطتها على شيء ، موضوع ما .وهذه الحركة لها علاقة حقيقية بالموضوع الشيء . وهي تشكل جزء من المرجعيات Deixis ، لأنها لا تشير إلا بوجود مرجع ما .
[16] ـ فرانسواز أرمينكو ، المقاربة التداولية ، ترجمة : سعيد علوش ، مركز الإنماء القومي ، ص 96 .
[17] ـ م ن ص 98 .
[18] ـ خوسيه ماريا بوثويلو إيقانكوس ، ترجمة حامد أبو حمد ، مكتبة غريب ، سلسلة الدراسات النقدية ، القاهرة ، ص 76 .
[19] ـ م ن ، ص ن .
[20] ـ راضية خفيف بوبكري ، التداولية وتحليل الخطاب الأدبي مقاربة نظرية ، مجلة الموقف الأدبي ، شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق ، العدد 399 تموز/2004 ، ص 6 . | |
|