كوجيتو ديكارت: "أفكر إذن أنا موجود"..
بقلم: رُنيه ديكارت
وهكذا، فإني ولما رأيت أن حواسنا تخدعنا أحيانا، افترضت أنّ لا شيء هو في الواقع على الوجه الذي تصوره لنا الحواس. وكذلك لما وجدت أن هناك رجالا يخطئون في استدلالاتهم، حتى في أبسط مسائل الهندسة، ويأتون فيها بالمغالطات، وأني كنت عرضة للزلل في ذلك كغيري من الناس، أعتبر باطلا كل استدلال كنت أحسبه من قبل برهاناً صادقاً.
وأخيراً، لما لاحظت أن جميع الأفكار، التي تعرض لنا في اليقظة، قد ترد علينا في النوم، من دون أن يكون واحد منها صحيحاً، عزمت على أن أتظاهر بأن جميع الأمور التي دخلت عقلي لم تكن أصدق من ضلالات أحلامي. ولكني سرعان ما لاحظت، وأنا أحاول على هذا المنوال أن أعتقد بطلان كل شيء، أنه يلزمني ضرورة، أنا صاحب هذا الاعتقاد، أن أكون شيئا من الأشياء. ولما رأيت أن هذه الحقيقة:
أنا أفكر، إذن أنا موجود،
هي من الرسوخ بحيث لا تزعزعها فروض الريبيين مهما يكن فيها من شطط ، حكمت بأنني أستطيع مطمئنا أن أتخذها مبدأ أولا للفلسفة التي كنت أبحث عنها.
ثم إني أمعنت النظر بانتباه في ما كنت عليه، فرأيت أنني أستطيع أن أفرض أنه ليس لي أي جسم، وأنه ليس هناك أي عالم، ولا أي حيّز أشغله، ولكنني لا أستطيع من أجل ذلك أن أفرض أنني غير موجود، لأن شكي في حقيقة الأشياء الأخرى يلزم عنه بضد ذلك، لزوما بالغ البداهة و اليقين، أن أكون موجوداً، في حين أنني، لو وقفت عن التفكير، وكانت جميع متخيلاتي الباقية حقا، لما كان لي أي مسوغ للاعتقاد أنني موجود. فعرفت من ذلك أنني جوهر كل ماهيته أو طبيعته لا تقوم إلا على الفكر، ولا يحتاج في وجوده إلى أي مكان، ولا يتعلق بأي شيء مادي، بمعنى أن " الأنا " أي النفس التي أنا بها ما أنا، متميزة تمام التميز عن الجسم، لا بل إن معرفتنا بها أسهل.
نقلاً عن كتاب ديكارت: "مقالة الطريقة
اللغة ميزة الإنسان
بقلم: ديكارت
.. ثم إنه يمكن أيضا معرفة الفرق بين الإنسان والحيوان، إذ من الملاحظ أنه ليس في الناس، ولا أستثني البلهاء منهم، من هم من الغباوة و البلادة بحيث يعجزون عن ترتيب الألفاظ المختلفة بعضها مع بعض، وعن تأليف كلام منها يعبرون به عن أفكارهم، في حين أنه لا يوجد حيوان يستطيع أن يفعل ذلك مهما يكن كاملا، وظروف نشأته مؤاتية. وهذا لا ينشأ عن نقص في أعضاء الحيوانات، لأنك تجد العقعق والببغاء يستطيعان أن ينطقا ببعض الألفاظ مثلنا، ولكنك لا تجدهما قادرين مثلنا على الكلام، أعني كلاما يشهد بأنهما يعيان ما يقولان، في حين أن الناس الذين ولدوا صما بكما، وحرموا الأعضاء التي يستخدمها غيرهم للكلام، كحرمان الحيوانات أو أكثر، قد اعتادوا أن يخترعوا من تلقاء أنفسهم إشارات يفهمها من يجد الفرصة الكافية لتعلم لغتهم، لوجوده باستمرار معهم . وهذا لا يدل على أن الحيوان أقل عقلا من الإنسان فحسب، بل يدل على أنه لا عقل له البتة، لأنّنا نرى أن معرفة الكلام لا تستلزم إلا القليل من العقل . ولما كان من الملاحظ أن بين أفراد النوع الواحد من الحيوان تباينا كتباين أفراد الإنسان، وأن بعضها أيسر تدريبا من بعض، كان من البعيد عن التصديق أن قردا أو ببغاء من أكمل أفراد نوعه لا يساوي في ذلك أغبى طفل، أو على الأقل طفلا مضطرب المخ، إلا إذا كانت نفس الحيوان من طبيعة مغايرة كل المغايرة لطبيعة نفوسنا. فيجب علينا إذن أن لا نخلط بين الكلام والحركات الطبيعية، التي تدل على الانفعالات، التي يمكن للآلات أن تقلدها، كما تقلدها الحيوانات ولا أن نعتقد، مع بعض الأقدمين، أن الحيوانات تتكلم، وإن كنا لا نفهم لغتها. لأنه لو كان ذلك صحيحا لكان في استطاعتها أيضا، ما دام لها كثير من الأعضاء المشابهة لأعضائنا، أن تفهمنا ما يختلج في صدورها كما تتفاهم وأبناء جنسها.
نقلاً عن كتابه "مقالة الطريقة"
ضرورة الشك
بقلم: ديكارت
بما أننا كنا أطفالا قبل أن نكون رجالاً، وكنا، قبل حصولنا على قدرة الوعي الكاملة، نصيب تارة في أحكامنا على الأشياء ونخطئ تارة أخرى، لأجل ذلك، كانت الأحكام، التي كوّناها على هذا النحو من التسرع، تعوقنا عن إدراك الحقيقة، وتؤثر فينا بحيث لا يحتمل أن نتخلص منها، ما لم نعزم، ولو مرة واحدة في حياتنا، على الشك في جميع الأشياء التي نجد فيها أقل موضع للّشك.
بل من المفيد جدا أن ننعت بالكذب كل ما تصورنا فيه أقل داع للشك، وذلك حتى يمكننا، لو تأتى لنا اكتشاف بعض أشياء تظهر لنا بينة الصدق بالرغم من احتياطنا هذا، اعتبارها أكثر الأشياء بقينا وأيسرها معرفة.
ولكن يجب أن يلاحظ أني أقصد أننا لا نستخدم طريقة في الشك على غاية من الشمول إلا عند شروعنا في النظر في الحقيقة. إذ من المؤكد أنه فيما يتعلق بتوجيه حياتنا، كثيرا ما يلزمنا اتباع آراء هي راجحة فقط، وذلك لأننا لو حاولنا التغلب على جميع شكوكنا، لكان في ذلك ما يكاد يفوت علينا دائما فرص العمل. وكذلك عندما تتعدد الآراء الراجحة مي موضوع واحد، ولا نستطيع ترجيح الواحد منها على الآخر، يقضي العقل باختيار رأي واحد واتباعه بعد ذلك على أنه يقيني جد اليقين.
ولكن بما أننا نقصد في الوقت الحاضر التفرغ للبحث عن الحقيقة فحسب، فإننا سنشك أوّلاً فيما إذا كان من الأشياء المحسوسة أو المتخيّلة، ما هو موجود حقيقة في العالم، إذ نعلم بالتجربة أن حواسنا خدعتنا في ملابسات عديدة، وأنه من عدم الحكمة أن نثق في من خدعنا مرة؛ وكذلك لأننا نكاد نحلم دائما أثناء النوم ونتخيل في وضوح عددا لا يحصى من الأشياء التي لا توجد خارج أحلامنا، ولأننا أخيرا لما كنا قد عزمنا على الشك في كل شيء، لم تبق لدينا علامة ما تدلنا على أن أفكار الحلم أكثر كذبا من غيرها.
ويلزمنا أن نشكّ أيضاً في سائر الأشياء التي كانت تبدو لنا فيما مضى يقينيّة جدّ اليقين، حتى في براهين الرياضيات ومبادئها، بالرغم من أنها بينة بياناً كافياً، وذلك لأن هناك من الناس من شكّ فيها (..).
وعندما نرفض على هذا النحو كل ما يمكن أن يناله أقل شك، بل نعتبره كاذباً، فإنه من السهل علينا، أن نفترض أنه ليس هناك إله ولا سماء ولا أرض وأننا بدون جسم، ولكننا لا نستطيع أن نفترض أننا غير موجودين عندما نشك في صحة هذه الأشياء كلها، إذ من غير المستطاع لنا أن نفترض أن ما يفكر غير موجود بينما هو يفكر، بحيث أننا مهما نبالغ في افتراضاتنا لا نستطيع تجنب الحكم بصدق النتيجة الآتية: أفكر إذن أنا موجود. وبالتالي فهي أولى وأيقن القضايا التي تمثل لإنسان يقود فكره بنظام.
نقلاً عن كتابه:"مبادئ الفلسفة"
الدهشة منطلق الفلسفة
بقلم: الفيلسوف أرسطو
إن الدهشة هي التي دفعت بالمفكرين الأول كما هو الأمر اليوم، إلى النظر الفلسفي. في البداية انصبت دهشتهم على الصعوبات التي مثلت، الأولى، في الذهن. ثم إنهم بتقدمهم على هذا النحو شيئا فشيئا، سحبوا استطلاعهم على مشكلات أهم مثل الظواهر المتصلة بالقمر وبالشمس وبالنجوم، وصولا إلى نشأة الكون. غير أن المرء الذي يتبين صعوبة ويندهش لها إنما يعترف بجهله الخاص. لذلك حتى حب الأساطير كان من جهة ما، حبا للحكمة، فالأسطورة نسيج من العجائب. وهكذا فلما كان هدف الفلاسفة الأول من تعاطي الفلسفة هو التخلص من الجهل، فبديهي أن سعيهم إلى العلم كان لغاية المعرفة وحدها وليس لغاية نفعية. وما حدث في الحقيقة بقيم الحجة على ذلك. فلقد كانت جميع ضرورات الحياة قد تحققت بعد أو كادت وتيسر ما اتصل بها من رفاه ومباهج لما انطلق السعي وراء هذا النوع من المباحث. واضح إذن أننا لا نروم من بحثنا أية مصلحة خارجية. ولكن مثلما يعتبر حرا من يكون غاية ذاته ولا يوجد من أجل غيره، كذلك فإن هذا العلم هو الوحيد، من بين جميع العلوم، الذي يمثل مبحثا حرّا لأنه الوحيد الذي يكون غاية ذاته.
نقلاً عن كتاب: "ما بعد الطبيعة"
الحرية والمسؤولية
بقلم: جان بول سارتر
الإنسان هو أولاً ما صمّم أن يكون عليه كمشروع،
وليس ما أراد أن يكون،
لأن ما نعنيه عادة بالإرادة هو القرار الواعي، وهو بالنسبة إلى الأغلبية منا لاحق بوجوده لما صنعه بنفسه.
فيمكنني أن أريد الانتماء إلى إحدى المجموعات، أو تأليف كتاب أو الزواج،
فإن ذلك كله ليس إلا مظهراً من مظاهر اختيار أكثر عراقة وتلقائية مما نسميه إرادة.
فإن كان الوجود يسبق حقيقة الماهيّة،
فالإنسان مسؤول عن وجوده الذي هو عليه.
وهكذا فان أول ما تسعى الوجوديّة إليه هو أن تجعل كل إنسان مالكاً لوجوده،
وأن تحمّله المسؤولية الكاملة عن وجوده.
وحينما نقول إن الإنسان مسؤول عن ذاته، فإننا لا نعنى بذلك أنه مسؤول عن ذاتيته فحسب، بل إننا نعني أيضاً أنه مسؤول عن جميع الناس (...)
وحينما نقول إن الإنسان يختار ذاته، فإننا نعني أن كل فرد منا يختار ذاته، ونحن لا نعني بذلك أنه يختار لنفسه فحسب، بل هو يختار أيضا لجميع الناس.
والواقع أنه ليس ثمة فعل من أفعالنا لا يكون من شأنه، حين يبدع الإنسان الذي نريد أن نكونه، أن يبدع في الوقت نفسه صورة للإنسان على نحو ما نريده على أن يكون.
فأن نختار أن نكون هذا الإنسان أو ذاك، هو أن نؤكّد في نفس الوقت قيمة اختيارنا، لأننا لا نستطيع أبدا أن نختار الشر. إن ما نختاره هو دائماً الخير، ولا شيء يمكن أن يكون حسنا بالنسبة إلينا إن لم يكن حسنا بالنسبة إلى الجميع.
ومن ناحية أخرى، إذا كان الوجود يسبق الماهيّة،
وإن كنا نريد أن نوجد بنفس الوقت الذي نصنع فيه صورتنا،
فان هذه الصورة تصبح صالحة للجميع ولعصرنا برمته.
وإذن فان مسؤوليتنا لهي في الحقيقة أعظم بكثير مما نظن، لأنها تلزم الإنسانية بأسرها.
فإذا كنت عاملا واخترت بالأحرى الانتماء إلى نقابة مسيحية من أن أكون شيوعيّاً، وإذا كنت أريد بهذا الانتماء بيان أن الخضوع هو في الحقيقة أفضل ما يناسب الإنسان من حلول، وأن مملكة الإنسان ليست على الأرض، فإنني لا أكون بذلك قد ألزمت نفسي فحسب، بل أريد أن استسلم فأكون قدوة للجميع، ويكون بالتالي مسلكي قد ألزم الإنسانية قاطبة.
وإذا أردت أن أتزوج - وهذا الشأن شخصي أكثر- وأن أنجب أطفالا، وحتى إذا كان هذا الزواج متوقفاً فقط على وضعي الخاص وعلى هواي أو رغبتي، فان ذلك لا يلزمني وحدي بل يلزم الإنسانية جمعاء بالسيّر معي على طريق الزواج الأحادي. ومعنى هذا أنني مسؤول أمام نفسي وتجاه الآخرين، وأنا أبدع صورة خاصة للإنسان أتخيرها لنفسي.
وإذ أختار لنفسي، فإنني اختار الإنسان.
عن كتاب الفيلسوف سارتر "الوجودية مذهب إنساني"
أمثولة الكهف
بقلم: أفلاطون
سقراط: تخيل رجالا قبعوا في مسكن تحت الأرض على شكل كهف، تطل فتحته على النور، ويليها ممر يوصل إلى الكهف. هناك ظل هؤلاء الناس منذ نعومة أظفارهم، وقد قيدت أرجلهم وأعناقهم بأغلال، بحيث لا يستطيعون التحرك من أماكنهم، و لا رؤية أي شيء سوى ما يقع أمام أنظارهم، إذ تعوقهم الأغلال عن التلفت حولهم برؤوسهم. و من ورائهم تضيء نار اشتعلت عن بعد في موضع عال، وبين النار والسجناء طريق مرتفع. ولتتخيل على طول هذا الطريق جدارا صغيرا، مشابها لتلك الحواجز التي نجدها في مسرج العرائس المتحركة، و التي تخفي اللاعبين وهم يعرضون ألعابهم.
غلوكون: إني لأتخيل ذلك.
سقراط: ولتتصور الآن، على طول الجدار الصغير، رجالا يحملون شتى أنوا ع الأدوات الصناعية، التي تعلو على الجدار. وتشمل أشكالا للناس والحيوانات وغيرها، صنعت من الحجر أو الخشب أو غيرها من المواد. و طبيعي أن يكون بين جملة هذه الأشكال من يتكلم ومن لا يقول شيئا.
غلوكون: إنها حقا لصورة عجيبة، تصف نوعا غريبا من السجناء.
سقراط: إنهم ليشبهوننا. ذلك أولا لأن السجناء في موقعهم هذا لا يرون من أنفسهم ومن جيرانهم شيئا غير الظلال التي تلقيها النار على الجدار المواجه لهم من الكهف، أليس كذلك ؟
غلوكون: وكيف يكون الأمر على خلاف ذلك ما داموا عاجزين طوال حياتهم عن تحريك رؤوسهم ؟
سقراط: كذلك فإنهم لا يرون من الأشياء التي تمر أمامهم إلا القليل.
غلوكون: بلا جدال.
سقراط: وعلى ذلك، فإذا أمكنهم أن يتخاطبوا، ألا تظنهم يعتقدون أن كلماتهم لا تشير إلا إلى ما يرونه من الظلال ؟
غلوكون: هذا ضروري.
سقراط: و إن كان هناك أيضا صدى يتردد من الجدار المواجه لهم، فهلا يظنون، كلما تكلم أحد الذين يمرون من ورائهم، أن الصوت آت من الظل البادي أمامهم ؟
غلوكون: بلا شك.
سقراط: فهؤلاء السجناء إذن لا يعرفون من الحقيقة في كل شيء إلا الأشياء المصنوعة.
غلوكون: لا مفر من ذلك.
سقراط: فلتتأمل الآن ما الذي سيحدث بالطبيعة إذا رفعنا عنهم قيودهم و شفيناهم من جهلهم. فلنفرض أننا أطلقنا سراح واحد من هؤلاء السجناء، وأرغمناه على أن ينهض فجأة، ويدير رأسه، ويسير رافعا عينيه نحو النور.
عندئذ تكون كل حركة من هذه الحركات مؤلمة له، وسوف ينبهر إلى حد يعجز معه عن رؤية الأشياء التي كان يرى ظلا لها من قبل. فما الذي تظنه سيقول، إذا أنبأه أحد بأن ما كان يراه من قبل وهم باطل، وأن رؤيته الآن أدق، لأنه أقرب إلى الحقيقة، ومتجه صوب أشياء أكثر حقيقة ؟ ولنفرض أيضا أننا أريناه مختلف الأشياء التي تمر أمامه، ودفعناه تحت إلحاح أسئلتنا إلى أن يذكر لنا ما هي. ألا تظنه سيشعر بالحيرة، ويعتقد أن الأشياء التي كان يراها من قبل أقرب إلى الحقيقة من تلك التي نريها له الآن ؟
غلوكون: إنها ستبدو أقرب كثيرا إلى الحقيقة.
سقراط: وإذا أرغمناه على أن ينظر إلى نفس الضوء المنبعث عن النار، ألا تظن أن عينيه ستؤلمانه، وأنه سيحاول الهرب و العودة إلى الأشياء التي يمكنه رؤيتها بسهولة. والتي يظن أنها أوضح بالفعل من تلك التي نريه إياها الآن ؟
غلوكون: أعتقد ذلك.
سقراط: و إذا ما اقتدناه رغما عنه و مضينا به في الطريق الصاعد الوعر، فلا نتركه حتى يواجه ضوء الشمس، ألا تظنه سيتألم و سيثور لأنه اقتيد على هذا النحو، بحيث أنه حالما يصل إلى النور تنبهر عيناه من وهجه إلى حد لا يستطيع معه أن يرى أي شيء مما تسميه الآن أشياء حقيقية ؟
غلوكون: إنه لن يستطيع ذلك، على الأقل في بداية الأمر.
فاستطردت قائلا: إنه يحتاج، في الواقع، إلى التعود تدريجيا قبل أن يرى الأشياء في ذلك العالم الأعلى. ففي البداية يكون أسهل الأمور أن يرى الظلال، ثم صور الناس و بقية الأشياء منعكسة على صفحة الماء، ثم الأشياء ذاتها. وبعد ذلك يستطيع أن يرفع عينيه إلى نور النجوم و القمر، فيكون تأمل الأجرام السماوية وقبة السماء ذاتها في الليل أيسر له من تأمل الشمس و وهجها في النهار.
غلوكون: بلا شك.
سقراط: وآخر ما يستطيع أن يتطلع إليه هو الشمس، لا منعكسة على صفحة الماء، أو على جسم آخر، بل كما هي ذاتها، وفي موضعها الخاص.
غلوكون: هذا ضروري.
سقراط: وبعد ذلك، سيبدأ في استنتاج أن الشمس هي أصل الفصول والسنين، وأنها تتحكم في كل ما في العالم المنظور، وأنها، بمعنى ما، علة كل ما كان يراه هو ورفاقه في الكهف.
غلوكون: الواقع أن هذا ما سينتهي إليه بعد كل هذه التجارب.
سقراط: فإذا ما عاد بذاكرته بعد ذلك إلى مسكنه القديم، وما كان فيه من حكمة، وإلى رفاقه السجناء، ألا تظنه سيغتبط لذلك التغير الذي طرأ عليه، و يرثي لحالهم ؟
غلوكون: بكل تأكيد.
سقراط: فإذا ما كانت لديهم عادة إضفاء مظاهر الشرف و التكرم على بعضهم البعض، و منح جوائز لصاحب أقوى عينين ترى الظلال العابرة، و أقوى ذاكرة تستعيد الترتيب الذي تتعاقب به أو تقترن في ظهورها، بحيث يكون تبعا لذلك أقدرهم على أن يستنتج أيها القادم، أتظن أن صاحبنا هذا تتملكه رغبة في هذه الجوائز، أو أنه سيحسد من اكتملت لهم ألقاب الشرف و مظاهر القوة بين أولئك السجناء ؟ ألن يشعر بما شعر به أخيل عند هوميروس، من أنه يّفضل ألف مرة أن يكون على الأرض مجرد خادم أجير عند فلاج فقير و أن يتحمل كل الشرور الممكنة، و لا يعود إلى أوهامه القديمة أو العيش كما كان يعيش من قبل ؟
غلوكون: إني أوافقك على رأيك هذا، فخير له أن يتحمل أي شيء من أن يعود إلى تلك الحياة.
سقراط: فلتتصور أيضا ماذا يحدث لو عاد صاحبنا واحتل مكانه القديم في الكهف، ألن تنطفئ عيناه من الظلمة حين يعود فجأة من الشمس.
غلوكون: بالتأكيد.
سقراط: فإذا كان عليه أن يحكم على هذه الظلال من جديد، و أن ينافس السجناء الذين لم يتحرروا من أغلالهم قط، في الوقت الذي تكون عيناه فيه مازالت معتمة زائغة، وقبل أن تعتاد الظلمة، وهو أمر يحتاج إلى بعض الوقت، ألن يسخروا منه، و يقولوا إنه لم يصعد إلى أعلى إلا لكي يفسد أبصاره، وإن الصعود أمر لا يستحق منا عناء التفكير فيه ؟ فإذا ما حاول أحد أن يحررهم من أغلالهم. ويقودهم إلى أعلى، واستطاعوا أن يضعوا أيديهم عليه، ألن يجهروا عليه بالفعل ؟
غلوكون: أجل بالتأكيد.
والآن، فعلينا، يا عزيزي غلوكون، أن نطبق جميع تفاصيل هذه الصورة على تحليلنا السابق. فالسجن يقابل العالم المنظور، ووهج النار الذي كان ينير السجن يناظر ضوء الشمس، أما رحلة الصعود لرؤية الأشياء في العالم الأعلى فتمثل صعود النفس إلى العالم المعقول. فإذا تصورت هذا فلن تخطى فهم فكرتي، مادام هذا ما تريد أن تعرفه. ولست أدري إن كانت فكرتي هذه صحيحة أم لا، ولكن هذا ما يبدو لي على أية حال، فاخرما يدرك في العالم المعقول بعد عناء شديد هو مثال الخير، ولكن المرء ما أن يدركه، حتى يستنتج حتما انه علة كل ما هو خير وجميل في الأشياء جميعا، وأنه في العالم المنظور هو خالق النور وموزعه، وفي العالم المعقول هو مصدر الحقيقة و العقل. فبدون تأمل هذا المثال لا يستطيع أحد أن يسلك بحكمة، لا في حياته الخاصة ولا في شؤون الدولة.
عن كتابه: " الجمهورية " - الكتاب السابع
الحقّ والقوّة
بقلم: جان جاك رسّو
ليس الأقوى بقوي دائماً قوّةً تجعله يسود أبداً إذا لم يحوّل قوّته حقّا والطاعة واجباً. ومن هاهنا كان حقّ الأقوى وهو حقّ ينظر إليه ظاهريّاً بضرب من السخرية وإن كان في الواقع قد غدا مبدأ: ولكن لم لا تشرح لنا دائما هذه الكلمة؟
إن القوة لهي قدرة ماديّة. فلست أرى أي أخلاقيّة قد تنتج عن نتائجها. فالخضوع للقوة هو فعل من أفعال الضرورة لا الإرادة، أو هو في الأكثر فعل من أفعال الحصافة. فبأيّ معنى يكون هذا واجباً؟
لنسلّم لحظة بهذا الحق المزعوم. فأقول إنه لا ينتج عنه إلا هراء لا تفسير له. فما أن تغدو القوّة هي التي توجد الحقّ، وتتغير النتيجة بتغيّر السبب، حتى ترث كلّ قوّة تتغلّب على الأولى حقها. وما إن يقدر المرء أن يعصي دون عقاب حتى يقدر على ذلك بصورة شرعية، ومادام الأقوى على صواب دائماّ، فليس للمرء إلا أن يسعى ليكون الأقوى.
أما والحالة هذه فما الحق الذي يذوي حين تبطل القوة؟ فإذا كان لنا أن نطيع بدافع القوة فلسنا نحتاج إلى أن نطيع بدافع الواجب أو المحبة، وإذا لم نحمل بالقوة على الطاعة فليس لنا إليها من تكليف. هكذا إذن نرى أن كلمة الحقّ هذه لا تضيف إلى القوّة شيئاً؛ إنها لا تعني هاهنا شيئا.
"أطيعوا ذوي السلطان". فإن كان يعني أن: اخضعوا للقوة - وهذا الأمر حسنٌ ولكنه غير مجدٍ- فإني أجيب قائلا إنه لن ينتهك أبداً. فكلّ قدرة إنما هي من الله، وأنا أسلّم بذلك، ولكن يعني أن كلّ داءٍ يكون منه أيضاً؟!.. أفيعني ذلك أنه يحرّم دعوة الطبيب؟ وإن طلع عليّ بعض الصعاليك من ناحية في غابةٍ فهل ينبغي لي أن أعطيه كيس نقودي ، في حين أقدر على إخفاء الكيس.. أأكون بصراحة مجبراً على إعطائه إياه خضوعاً للمبدأ المذكور؟..
لنتفق إذن على أن القوة لا تُوجد الحقّ، وعلى أن ليس للمرء إلا أن يطيع ذوي السلطان الحقّ.
نقلاً (بتصرّف) عن كتابه: "في العقد الاجتماعي"
الفن والواقع
بقلم: هنري برغسون
لو كان للواقع أن ينفذ إلى حواسنا ووعينا مباشرة، ولو استطعنا أن نكون على اتصال مباشرة، بالأشياء وبأنفسنا، لأصبح الفن في اعتقادي غير ذي جدوى، أو لكنا بالأحرى جميعا فنانين، لأن نفوسنا ستهتزّ ساعتها اهتزازاً متجاوباً باستمرار مع الطبيعة. ولسوف تعمد عيوننا، ترفدها ذاكرتنا، إلى أن تقتطع في الفضاء لوحات لا مثيل لها. تثبتها في الزّمان ولسوف يدرك بصرنا أثناء ذلك شذرات تمثال منحوتة في الرخام الحي للجسد البشري تضاهي في جمالها ما كان يصنع منها قديما. لسوف نستمع في أعماق أنفسنا إلى لحن حياتنا الداخليّة الموصول. نغماً موسيقيّاً مرحاً حيناً، ومتأوّهاً أحياناً، وأصيلاً دائماً.
كل ذلك محيط بنا، كل ذلك قائم فينا، ومع ذلك فإننا لا نتبيّن منه شيئا بوضوح. فما بين الطبيعة وبيننا، بل قل ما بيننا وبين وعينا، يقوم حجاب، هو لدى عامة الناس حجاب سميك وهو لدى الفنان والشاعر حجاب رقيق يكاد يكون شفّافاً. فأيّة ساحرة نسجت هذا الحجاب؟ أتراها نسجته مكرا أم مودة؟!
لقد كان علينا أن نعيش، والحياة تقتضي أن نتناول الأشياء من حيث علاقتها بحاجاتنا. فأن نحيا هو أن نفعل، أن نحيا هو ألا نقبل من الأشياء إلا ما تتركه فينا من الانطباع المفيد، حتى نستجيب لها بما يناسبها من ردود الفعل. أما الانطباعات الأخرى فان عليها أن تغيب عنا أو ألا تصل إلينا إلا مبهمة. إني أنظر وأظن أني أرى، وأنصت وأظن أني أسمع وأدرس نفسي وأظن أني أقرأ في أعماق قلبي. ولكن ما أراه وما أسمعه من العالم الخارجي إنما هو فقط ما تستخلصه منه حواسي إنارة لسلوكي. فما أعرفه عن نفسي إنما هو ما يطفو على السطح، وما يساهم في الفعل، وإن حواسي ووعيي لا تعطيني من الواقع إلا مختصراً عمليّاً، فتمحي، في الرؤية التي توفرها لي عن الأشياء وعن نفسي، الفروق التي لا تنفع الناس، وتبرز التشابهات التي تنفعهم، و تمدّ لي، من قبل أن أبدأ، سُبل ينتهجها فعلي، هذه السبل هي تلك التي مرّت منها الإنسانية جمعاء قبلي أنا.
وسواء أكان الفن رسماً أو نحتاً أو شعراً أو موسيقى فليس من هدف له إلا استبعاد الرموز المفيدة عمليا والعموميات المقبولة اصطلاحاً واجتماعيّاً، وأخيراً استبعاد كل ما يحجب عنا الحقيقة والواقع لكي نكون وجها لوجه مع الواقع ذاته. فعن سوء فهم حول هذه النقطة بالذات نتج الجدل بين الواقعية والمثالية في الفن. فالفن بالتأكيد ليس إلا روية أكثر مباشرة للواقع، ولكن هذا النقاء في الإدراك يقتضي قطيعة مع الاصطلاح المفيد، كما يقتضي عدم اهتمام فطري، لامبالاة بالحس أو بالوعي وأخيرا نوعا من اللامادية في الحياة وهو ما سمي دائماً بالمثالية. بحيث يمكن القول دون اللعب إطلاقاً على معنى الكلمات. إن الواقعية تكون في الإنتاج في الوقت الذي تكون فيه المثالية في الروح وإنه فقط بقدر ما نرتقي في المثالية نسترجع الاتصال بالواقع.
عن كتابه: "الضحك"